بانسحابه من السباق الرئاسي الأمريكي، أعطى الرئيس جو بايدن درساً في تخلي القائد عن طموحه الشخصي إلى ولاية ثانية، لصالح الانضباط الحزبي.
أقدم الرجل على هذه الخطوة، رغم مرارتها في حلقه، حين تيقن من ضعف فرصته في منازلة الرئيس السابق ترامب، وأن عناده ومكابرته ومقاومته للرياح، التي لم تعد مواتية لرغبته داخل جماعته الحزبية، ستنتهي، ليس فقط بهزيمته السياسية، وإنما ستفضي أيضاً إلى نتائج كارثية بالنسبة لهذه الجماعة، على جبهتي البيت الأبيض والبرلمان بشقيه، النواب والشيوخ.
بدورهم، أظهر كبار القادة الديمقراطيون إيثاراً حزبياً، لا يقل عن ذلك الذي عبر عنه بايدن.. إذ تفهموا دقة اللحظة وحساسيتها، وقدروا أن ربع الساعة الأخيرة، قبل موعد الحسم الانتخابي، لا يسمح بترف التنافس بين أكثر من مرشح محتمل، وأن حساب ترتيب الأولويات، يقتضي سرعة تصفية اللغط والجدال، وربما كان التشظي، الذي ساد ساحتهم أخيراً، وأنذر بغيابهم عن مشهد الحكم والإدارة..
وعليه، عجل معظمهم بتعويم كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالية، حتى إنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الترشح أمام ترامب، المنتشي بقوته الحزبية، في نوفمبر المقبل.
في غضون يومين لا أكثر، اصطف الديمقراطيون خلف هاريس، حتى إنها حصلت على وعد صارم بدعم مندوبيهم الأربعمئة المكلفين باختيار مرشحهم الرسمي.. هذا فضلاً عن تأييد بايدن نفسه. هذا التوافق الحزبي الفاعل في فترة قياسية، بين يدي المنافسات الانتخابية الرئاسية، لم يحدث من قبل.. وقد تم تبرير هذا «الاستثناء»، بضرورة التبكير باختيار المرشح، بعد أن حقق الجمهوريون سبقاً ملموساً في المضمار.
على أن سيناريو التبكير والتعجيل بتقعيد هاريس في كابينة قيادة الديمقراطيين، لم يأتِ، كما قد يظن البعض، عن هرولة عشوائية.. بل لعله كان الاختيار الأنسب والأكثر عقلانية في توقيته.. فهذه السيدة تحظى، وفقاً لمنهج الملاحظة الأولية، بشيء غير قليل من «الكاريزما» اللازمة لمنصب بهذا الحجم..
إطلالاتها وأساليبها في التعامل مع الجموع الغفيرة، وأحاديثها وإجاباتها عن أسئلة القضايا الانتخابية التي تشغل خصوصاً الأمريكيين وعامتهم، على المستويين الداخلي والخارجي، توحي بالثبات الانفعالي والثقة في النفس.. ويشي بذلك أيضاً، مبادرتها بدعوة ترامب إلى مناظرتها في أي زمان ومكان يحددهما بنفسه.
هذا دون الاستطراد إلى ما يعنيه وجودها في قلب الأحداث، إلى جوار بايدن، لجهة الخبرة والمعاينة والمعايشة.. ورب قائل هنا إن ترامب، الذي لم يغادر سدة الرئاسة سوى لأربعة أعوام فقط، يستحوذ على مثل هذه الميزات وزيادة. هذا صحيح. بيد أن تجربة ترامب، في سنين ولايته وما بعدها، لم تكن محفوفة كلها بحسن الطالع والتوفيق.
ويكفي أنها كللت بواحد من أصعب الامتحانات والمحن التي مر بها النظام الأمريكي برمته، يوم أن اقتحم مثيرو الشغب مبنى الكابيتول، محاولين قلب نتيجة انتخابات 2020 لصالح ترامب، الذي قيل إنه المحرض الأساسي على تلك الفعلة المشينة.
أيضاً، قد لا يفوت الناخبين الأمريكيين أن ولاية ترامب الأولى، حفلت، مثلاً، بالتراشق مع الحلفاء الأوروبيين، إلى حد الإساءة إليهم، داخل «الناتو» وخارجه.. وذلك في الوقت الذي يقال فيه إن الرجل يكن وداً للرئيس الروسي وسياساته الدولية، بما دفع الأخير لاحقاً إلى مباغتة أوكرانياً عسكرياً، وتنمية التعاون إلى حافة التحالف مع الخصم الصيني.
من بين ما يعنيه صعود هاريس، علاوة على لملمة شعث الديمقراطيين وتدارك وحدتهم، أنها تبدو من طينة نسائية صلبة، بما يستقطب الناخبات التواقات إلى الارتقاء بالمرأة نحو أعلى مناصب الدولة.. لقد فشل هذا المسعى مع هيلاري كلينتون، فلماذا لا يحاولون تارة أخرى مع غيرها؟
كما أن هاريس تنتمي لأصول ملونة، الأمر الذي سيؤدي إلى إعادة الروح لتقاليد الديمقراطيين، الذين عادة ما ينعمون بأكثرية أصوات الأقليات، من غير البيض الأنغلوساكسون البروتستانت.
الشاهد أن الديمقراطيين، استردوا وعيهم الحزبي، وكان تصديرهم لهاريس، بمثابة سقيا قوية لحياضهم وفرصهم الانتخابية.. ونظن أن ترامب بات راهناً في مواجهة منافس، لن يصلح لمغالبته ذلك الصخب والتنمر والهياج الإعلامي الدعائي شبه الشعبوي، الذي اعتاد عليه مطولاً.