للموسيقار المصري الكبير محمد الموجي (1923 - 1995 م) حكاية مع مطرب الريف العراقي عبدالصاحب شراد، حدثت إبان زيارة الموجي لبغداد في مطلع الستينيات.
ضمن جولة قام بها آنذاك في بعض البلاد العربية، من أجل الترويج لشركة فنية أسسها مع المخرج المصري سيد بدير، والمخرج السوري نذير عقيل. وقبل أن نسرد لكم الحكاية، دعونا نتعرف إلى المطرب العراقي. أما الموجي، فغني عن التعريف، بسبب ألحانه العبقرية لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة ومحرم فؤاد وفايزة أحمد وغيرهم.
عبدالصاحب شراد، الذي ربما نسيه الجمهور اليوم، لكن اسمه محفور في ذاكرة أبناء جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ولد في عام 1927، بمنطقة الكرنتينة البغدادية، ابناً لوالده السيد شراد وحيد، الذي كان يجيد الغناء السويحلي والبدوي، لكن دون أن يحترفه.
والذي اختار له اسم عبدالصاحب المنتشر عند شيعة العراق الاثنى عشرية (يقول إبراهيم السامرائي في كتابه «الأعلام العربية»، إن المقصود بـ «صاحب»، هو الإمام المهدي المنتظر، الملقب بصاحب الزمان).
عمل عبدالصاحب في «شركة الغزل والنسيج العراقية» كعامل، وأصبح براداً في شعبة النسيج.
وفي أوائل عام 1952، أقامت الشركة حفلة ترفيهية لعمال المصنع، تحت رعاية مديره العام أديب الجادر (صار في ما بعد وزيراً للصناعة).
ورشح عبدالصاحب لأداء بعض الفقرات التمثيلية والغنائية في الحفل، وبالفعل غنى لأول مرة أمام الحضور وبعض المدعوين من أهل الطرب والفن، وكوادر الإذاعة العراقية، الذين أعجبوا بقوة أدائه وجمال صوته، فشجعوه على احتراف الغناء في الإذاعة. ولعل ما شجعه أكثر، حصوله على كأس فضية من مديره، تقديراً لمشاركته.
في العام نفسه، تقدم إلى الإذاعة للعمل مطرباً، ووافقت لجنة القبول بأغلبية أربعة أصوات مقابل صوت، على تصنيفه مطرباً إذاعياً، وخصصت له ثلاث حفلات غنائية كل شهر.
وكان الصوت الوحيد الرافض له، هو صوت مطرب الريف الأشهر آنذاك «حضيري بوعزيز». وهكذا راح يغني في الإذاعة، ومنها انتقل للغناء في برنامج «ركن الريف» التلفزيوني، بدعم من مدير التلفزيون آنذاك، المقدم عبدالستار رشيد. ومن الإذاعة والتلفزيون، انتقل للغناء في الحفلات العامة، بمصاحبة فرقة التلفزيون الموسيقية.
كانت الأغنية الأولى التي سجلها للإذاعة في عام 1953، هي أغنية «قولوا لي إيش قالوا»، التي نجحت نجاحاً ساحقاً، والتي أغرت الملحن عباس جميل أن يلحن له أغنية «القلب طاب صوابه».
وكذا مع الملحن علي رضا، الذي لحن له «عجيبة والله عجيبة»، والملحن عبد الجبار الدراجي، الذي لحن له «تطلع الشمس»، والملحن محمد نوشي، الذي لحن له أغنيات «هاي عيني»، و«يا سفانه» و«سفرتكم لا تطولوها».
زار الموجي إذاعة بغداد، خصوصاً أن علاقة صداقة كانت تربطه بمديرها، فصادف أن عبد الصاحب كان يسجل إحدى أغانياته الريفية، فأعجب الموجي بنقاء وقوة صوته، وطلب مقابلته. في المقابلة، عرض عليه الموجي أن يأتي معه إلى القاهرة، ويقيم بها على نفقته الخاصة، وأن يتولى تدريبه وتجهيزه لإطلاقه في عالم النجومية والشهرة خلال ستة أشهر.
أما شرط الموجي الوحيد، فقد كان توقيع عقد احتكاري معه لمدة خمس سنوات، مع اقتسام العوائد المالية مناصفة. فوجئ صاحبنا بالعرض، ولم يرد في حينه، لكنه رفضه لاحقاً، بحجة أنه زاهد في الشهرة، وراضٍ بما هو فيه، ولا يريد مغادرة العراق إلى المجهول، وربما كان الرفض ناجماً عن خوفه من المغامرة والفشل، والعودة من القاهرة بخفي حنين.
وهكذا فوّت مطربنا على نفسه فرصة ذهبية، كان يتمناها كل مطرب في حينه، خصوصاً أن العرض جاء من ملحن كبير وصانع للنجوم كالموجي. ولولا رفضه لكان العرض انتشله من القاع إلى مصاف كبار نجوم الطرب العرب.
رحل عبد الصاحب عن دنيانا في نهاية الثمانينيات، بعد أن أتحف المكتبة الغنائية العربية والعراقية بالعديد من الأغاني الريفية، التي طورها وأنقذها من الرتابة، وبث فيها روحاً جديدة، ومنها (عدا ما ذكرناه آنفاً): «ذبي العباية»، و«تتندم علي»، و«الهجع»، و«سلمت ما قاللي هلا»، و«أريد وياك»، و«أرد أنشد من أهل الهوى»، و«آه يا عيني».