من الأدباء السعوديين الذين وهبوا أعمارهم للكتابة والحوار والبحث والتقصي، من خلال الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي، ودور الطباعة والنشر، ومنتديات وجمعيات الثقافة والمعرفة وهيئاتها الرسمية والأهلية، الأديب الأريب صاحب القلم السيال المفتون بالأدب والشعر والثقافة.. كتلة الأخلاق الحميدة الماضية في طريقها لزرع الحب والصفاء ونثر الوئام، الأستاذ حمد القاضي، الذي وصفه صاحب الإثنينة الراحل عبدالمقصود خوجة بأنه «مفتون بالكلمة أينما كانت، لذا يسعى إليها، وتسعى له، فتعامل معها في الإذاعة والتلفزيون والأندية الأدبية والصحف وتأليف الكتب، وشكلت زهرة حياته وريحان عطره وثمرة فكره»، بينما وصفه رئيس تحرير جريدة «البلاد» السعودية علي محمد حسون بأنه اسم على مسمى قائلاً: «لعل لأخينا حمد القاضي من اسمه نصيباً فهو (حمد) لكل خير، ولكل محبة، ولكل طيبة قلب، ونظافة ضمير، وهو (القاضي) على كل بذور الشر في نفسه، وعلى كل سوداوية الحسد في داخله».
قال عنه وزير المعارف، ووزير الدولة السعودي الراحل الدكتور عبدالعزيز الخويطر: «لسان حمد عف، وقلمه نزيه، ولطالما رأيته يزيل شائبة بين المتجادلين لج بهما الحجاج، ولطالما رأيته ينعم خشونة متقاذفين.. باسم لا يريد إلا أن يرى الابتسامة، لأنها بضاعته الرائجة وسلعته الرابحة».
وشهد الدكتور غازي القصيبي على ذائقته الأدبية الرفيعة فقال رحمه الله: «حمد القاضي لا يغمس قلماً في مداد.. ويكتب على ورقة.. إنه يغمس وردة في محبرة الحب.. ويكتب على شغاف القلوب.. لهذا تجيء كلماته رقيقة دوماً.. ناعمة دوماً.. كوردة مغموسة في محبرة الحب».
وكتب الكاتب السعودي محمد عبدالكريم العنيق معلقاً على شخصيته فقال: «إذا تحدث تمنيت ألا يسكت، وإذا سكت ناب سكوته عن كلامه.. يغلِّف الحكمة بالطرفة لتبقى حية في الذهن، ويربط العلم بالتجربة ليمنح القارئ أو السامع مزيجاً عجيباً غير متكلف، قلمه سيال لو أرخى له العنان».
ولد حمد بن عبدالله بن سليمان القاضي في مدينة عنيزة القصيمية في عام 1948 (ورد في بعض المصادر التي اطلعت عليها أنه من مواليد عام 1959، وهذا لا يستقيم مع تواريخ الأحداث التي مرت في حياته) ابناً لوالده عبدالله بن سليمان القاضي، ووالدته موضي بنت صالح العليان التي توفيت وهو في السابعة من عمره، فتسبب رحيلها في جرح غائر له.
والده من أسرة القاضي المعروفة، التي تنتمي إلى فخذ الوهبة من قبيلة بني تميم، والتي قدمت لوطنها السعودي العديد من الأعلام والقامات الشهيرة في ميادين العلم والأدب والإدارة والتجارة والقضاء والتربية والعمل الاجتماعي ممن عرفوا بالولاء لبلادهم، وولاة أمرها والدفاع عن حماها، علماً بأن الأسرة اكتسبت لقب «القاضي» من جدها الأعلى القاضي العلامة محمد بن أحمد بن منيف بن بسام، الذي ينتهي اسمه بإلياس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان، والذي تولى القضاء في بلدة «أوشيقر» النجدية ثم في عالية نجد عام 986 للهجرة.
من الأعلام الذين أنجبتهم هذه الأسرة الكريمة التاجر المعروف حمد بن علي القاضي، الذي ذاع صيته في الهند البريطانية في ثلاثينيات القرن الماضي بعد هجرته إلى هناك للعمل والإقامة، وابنه إبراهيم بن حمد القاضي الملقب بـ«بروفيسور الدراما والأب الروحي للمسرح الهندي»، والتاجر المحسن إبراهيم سليمان محمد القاضي، الذي درس في البحرين وعمل بها ثم أدار المعهد العلمي بعنيزة وترأس شركة كهربائها ومجلس إدارة شركة القصيم الزراعية، والشيخ صالح عثمان حمد القاضي، الذي تولى القضاء والإمامة لأكثر من ربع قرن، والشيخ صالح محمد إبراهيم القاضي، الذي تولى إمارة عنيزة ما بين عامي 1248 إلى 1250 للهجرة، والسفير الشاعر عبدالرحمن إبراهيم محمد القاضي، الذي عمل قنصلاً في نيويورك وسفيراً للسعودية في البحرين وسفيراً لبلاده لدى السويد وبقية الدول الإسكندنافية، والمهندس صالح عبدالله صالح القاضي، الذي تولى وظائف إدارية عديدة في بلدية وأمانة المدينة المنورة وعسير، وغيرها كثير.
تلقى حمد القاضي تعليمه النظامي في مسقط رأسه بعنيزة، وكان إبان ذلك مولعاً بالقراء، ميالاً للأدب والشعر. وفي هذا السياق نقلت عنه صحيفة الرياض (23/8/2021) قوله: «بدأت منذ عرفت نفسي ولعلني ولدت وفي يدي كتاب، أنني منذ عهد الصبا في مدينتي (عنيزة) بدأت رحلتي في عشق الكتاب من أول نظرة، لقد كنت محظوظاً إذ نشأت وعلى مقربة مني مكتبة وكتاب وصحف ومجلات وأساتذة ورفاق يحفزونني على القراءة ويجذبونني إليها».
وأضاف: «لقد كان أول كتاب قرأته للمنفلوطي كتاب (النظرات)، ولهذا الكتاب ولكُتب المنفلوطي أثر كبير في أسلوبي في مجال الكتابة ذات (الصبغة الرومانسية) في السابق ثم صار الاحتفاء بالشأن الثقافي الاجتماعي والإنساني في نهاية مطافي الكتابي، ثم بعد انتقالي إلى مدينة الرياض للدراسة الجامعية اتجهت إلى قراءة دواوين الشعر وكان للشاعر السعودي المعروف أحمد الصالح (مسافر) أثر في توجيهي لذلك، من خلال إرشادي إلى بعض الدواوين الشّعرية لشعراء المهجر، وعمر أبي ريشة، وإبراهيم ناجي، وغازي القصيبي، وهذا العشق للأدب وكتبه وحروفه هو الذي أدخلني إلى الصحافة»
بعد حصوله على الشهادة الثانوية سنة 1968 حمل أوراقه وأقلامه وكتبه وأغراضه متجهاً من عنيزة إلى الرياض، ليلتحق فيها بكلية اللغة العربية (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لاحقاً) التي منحته في عام 1971 درجة البكالوريوس في آداب اللغة العربية، ليلتحق على أثر ذاك بجامعة الأزهر المصرية، التي تخرج فيها في عام 1975 حاملاً درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها عن أطروحة بعنوان «النصيب بن رباح، حياته وشعره».
كان القاضي صاحب نشاط مرموق في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة منذ السبعينيات الميلادية، فعرفه الناس كمحاور متمكن من خلال برنامج كان يعرضه التلفزيون السعودي بعنوان «رحلة الكلمة» وهو برنامج ثقافي كان القاضي يستضيف فيه المثقفين والأدباء والشعراء العرب، ويحاورهم بعمق موظفاً قدراته البلاغية وخلفيته الثقافية الغزيرة.
كما عرفه الناس كمساهم بقلمه في مجال الكتابة الثقافية والاجتماعية والنقدية من خلال الصحف والمجلات السعودية المتنوعة، حيث نشرت له الصحافة أول مقال وهو على مقاعد الثانوية بعنوان «النجاح وليد العمل والكفاح»، وفي المرحلة الثانوية عمل متعاوناً مع صحيفة «الرياض»، ثم صار محرراً ومشرفاً على الملحق الثقافي لصحيفة «الجزيرة»، التي ظل يكتب فيها زاوية بعنوان «جداول» على مدى 20 عاماً، وصولاً إلى توليه في الفترة من عام 1981 إلى عام 2007 مناصب سكرتير التحرير، ثم مدير التحرير فرئيس التحرير لأشهر المجلات السعودية الثقافية رصانة وهي «المجلة العربية»، فانتشلها من الأبراج العاجية وأنزلها إلى مستوى الناس وجعلها في متناولهم، فأقبلوا عليها يغترفون منها العلم والثقافة والمعرفة ويكتبون فيها، طبقاً لشهادة وزير الإعلام السعودي الأسبق الدكتور محمد عبده يماني.
وقبل أن يتم اختياره عضواً في مجلس الشورى من عام 2001 إلى عام 2013، حيث تولى فيه رئاسة لجنة الثقافة والإعلام والشباب لمدة عام، كان القاضي قد عمل مديراً للعلاقات العامة والإعلام بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية السعودية، وملحقاً ثقافياً بوزارة التعليم العالي في السعودية. وكان حاضراً بعلمه وثقافته في مختلف الندوات والمنتديات والمؤتمرات الثقافية والإعلامية داخل السعودية وخارجها.
والحقيقة أن برنامجه التلفزيوني «رحلة الكلمة»، الذي لم يتوقف إلا بعد تعيين صاحبه عضوا في مجلس الشورى، كان له فضل كبير على المشاهدين لجهة تنمية وتطوير ذائقتهم الأدبية، فهذا الأديب والإعلامي والمؤرخ حسين محمد بافقيه يقول في صحيفة الوطن السعودية (3/3/2022): «عرفت برنامج (رحلة الكلمة)، وألفت إطلالته الأسبوعية، وأصبح حمد القاضي ممن لهم سهم كبير في تكويني ونشأتي الثقافية والأدبية، وعلى ذلك البرنامج الثقافي، الذي نعده اليوم من أزكى تراثنا الثقافي المرئي، نشأ جيل من الأدباء والمثقفين».
وشخصية بمثل هذا الدأب والنشاط والمساهمات وبهذا القدر من الاهتمامات الثقافية المتشعبة كصاحبنا، الذي شنف الأسماع بأدبه وأسحر الألباب بحسن بيانه، كان من الطبيعي أن يحظى بعضوية العديد من اللجان والكيانات الفكرية والأدبية والإعلامية والخيرية، ومنها: عضوية لجنة الإعلام التربوي بوزارة التربية والتعليم، ولجنة البر الخيرية بعنيزة، والجمعية الخيرية الصحية لرعاية المرضى والمحتاجين، والجمعية السعودية العلمية للغة العربية، ونادي الرياض الأدبي، ومؤسسة عكاظ للصحافة والنشر، ورابطة الأدب بمصر، والهيئة الاستشارية لمؤسسة الفكر العربي ببيروت، ولجنة المشورة بمهرجان الجنادرية، والهيئة الاستشارية لكرسي غازي القصيبي للدراسات الثقافية والتنموية، ومجلس أمناء مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية، علاوة على توليه منصب الأمين العام لمؤسسة الشيخ حمد الجاسر الثقافية، ومشاركته كعضو في الحوار الوطني الخامس، الذي صاغ الرؤية الوطنية السعودية للتعامل مع الآخر.
وبالمثل كان طبيعياً أن يحظى أيضاً بالتكريمات والجوائز تقديراً لعطائه وجهوده في خدمة الفكر والثقافة، حيث حصل على جائزة الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز لأعمال البر، وكرمه «ملتقى الرواق» في الرياض بإصدار كتاب عنه بعنوان «فارس الثقافة والأخلاق حمد بن عبدالله القاضي» من تأليف الباحث يوسف العتيق، وكرمه النادي الأدبي بجدة في عام 2022 بإصدار كتاب عنه بعنوان «سفير الأدباء حمد بن عبدالله القاضي.. السيرة والمسيرة»، وتم تكريمه باختياره الشخصية الثقافية في الملتقى الثقافي بمكة المكرمة، وتم تكريمه ضمن 5 شخصيات عربية ثقافية إعلامية بمهرجان اتحاد الإذاعات العربية بتونس، وكرمته محافظة عنيزة في عام 2024 بمنحه قلادة عنيزة الذهبية، وفاز في عام 2023 بجائزة المحتوى الايجابي الرقمي في منصة «إكس» «تويتر» سابقاً، وكرمته «منصة إحسان» كواحد من المؤثرين لجهة نشر الوعي في حفل رعاه الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، في عام 2022، وتم تكريمه في عام 2019 كأحد رواد الإعلام والثقافة في السعودية، كما تم تكريمه في ملتقى النص الثامن عشر بنادي جدة الأدبي سنة 2022 ضمن مجموعة من الأدباء السعوديين، كونه أديباً لا يتكلم إلا بلسان المحب النبيل، وشخصية غشيت كل تضاريس الثقافة والإعلام، وإنساناً يمتلأ جرابه بالأخبار والطرائف، وكاتباً متواضع النفس رحب الصدر ذرب اللسان هادئ الطبع سهل الأسلوب.
وللقاضي المكنى بـ«أبوبدر»، الذي عرفته ابتداء من خلال الشاشة الفضية قبل أن ألتقيه شخصياً لأول مرة بالمنامة التي جاءها في مارس 2019 لحضور افتتاح «منامة القصيبي»، وهو مركز ثقافي خاص بسيرة وعطاء صديقنا المشترك المرحوم د. غازي بن عبدالرحمن القصيبي، العديد من المؤلفات القيمة التي أثرت المكتبتين السعودية والعربية، لعل أهمها: «الشيخ حسن آل الشيخ، الإنسان الذي لم يرحل»، «أشرعة للوطن والثقافة»، «رؤية حول تصحيح صورة بلادنا وإسلامنا»، «غاب تحت الثرى أحباء قلبي»، «الثقافة الورقية في زمن الإعلام الرقمي»، «قراءة في جوانب د. غازي القصيبي الإنسانية»، «د. عبدالعزيز الخويطر: وسم على أديم النزاهة والوطن»، «مرافئ على ضفاف الكلمة».
وللقاضي رأي، مفاده أن من أجمل ما يقرأ الإنسان كتب السير، لأنها حسب قوله «يخرج منها المرء بحصيلة معرفية من تجارب سيرة كاتبها.. تكون له قبساً بحياته سواء بتجاوز العثرات أو معانقة الطموحات».
يخبرنا الباحث السعودي سهم الدعجاني في مجلة اليمامة (16/5/2024)، وهو ممن عمل مع القاضي في «المجلة العربية» لمدة عشر سنوات أن صاحبنا لا يكتب ولا يشرح ولا يهمس لأسرة التحرير إلا بالقلم الأخضر، وذلك إيماناً منه بأن هذا اللون يبعث السكينة والطمأنينة في وسط زملاء التحرير، كما أخبرنا أن القلم الأخضر لا يزال معه حتى الآن، يوقع به على كتبه المهداة لمحبيه، الذين يأتي على رأسهم أصدقاء عمره الثلاثة: منصور الخضيري، والدكتور عائض الردادي، والدكتور إبراهيم التركي.