تقول موسوعة أعلام الموسيقى العربية ما مفاده أن أم كلثوم لعبت دوراً تثقيفياً وأدبياً في المجتمع العربي من خلال غنائها قصائد من روائع الشعر العربي الفصيح، من تلك التي لم يكن من السهل ترويجها في أوساط العامة لولا جماهيريتها وتعلق الجمهور بصوتها النادر.
والحقيقة أن القصيدة الفصحى شكلت ما نسبته 26% من مجمل أعمالها، خصوصاً وأن «الست» بدأت مشوارها الغنائي سنة 1923 بالموشحات الدينية التي انتقلت إليها من خلال والدها إبراهيم البلتاجي، قبل أن تعيد بصوتها تسجيل قصائد فصحى كان قد غناها سابقاً الشيخ أبو العلا محمد.
وقبل أن يلحن لها الأخير قصيدة أحمد رامي الشهيرة «الصب تفضحه عيونه» في عام 1924، التي تلاها قيام الشيخ أبو العلا بتلحين قصيدة أخرى لها، هي «وحقك أنت المنى والطلب» من شعر سابع شيوخ الأزهر الشريف الإمام عبدالله الشبراوي (ت: 1958).
تقول الدكتورة هدى فخر الدين في بحث لها إن الست عرفت بموهبتها في اختيار أغانيها وتنسيقها مع اللحن بشكل يتلاءم مع شخصيتها وتوقعات جمهورها، بمعنى حرصها على اختيار وانتقاء وترتيب وتغيير النصوص والألحان.
الملاحظ هو أن قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي شكلت جزءاً مهماً في التاريخ الغنائي الفصيح لأم كلثوم، وهذه العلاقة بينهما بدأت في عام 1936 حينما اختارت الست أبياتاً من قصيدة «عيد الدهر»، التي نظمها شوقي في مديح السلطان العثماني محمد رشاد الخامس، لتغنيها بمناسبة تولي الملك فاروق عرش مصر في تلك السنة.
ومثلما كانت بدايتها مع شوقي قصيدة سياسية، فإن ختام علاقتها به تمثل في غنائها قصيدتين سياسيتين أيضاً، وذلك في عام 1954 حينما اختارت أن تغني قصيدة «السودان» لتواكب بها الحراك السوداني المطالب بالاستقلال، وقصيدة «الجلاء» لتواكب فرحة جلاء الإنجليز عن مصر.
وما بين عامي 1936 و1954 غنت الست لشوقي قصائد خالدة، هي وفق ترتيبها الزمني: «سلوا كؤوس الطلى»، «سلوا قلبي»، «نهج البردة»، «النيل»، «ولد الهدى»، «نشيد الجلاء» «إلى عرفات الله»، وجميعها من ألحان الموسيقار رياض السنباطي المتميزة.
ونتوقف هنا لسرد الرواية المتعلقة بقصيدة «سلوا كؤوس الطلى». تقول الرواية إن الست غنتها في مناسبة خاصة بمنزل شوقي، وبعد أن فرغت من الغناء قدم لها الأخير كأساً من الراح، فرفعت الكأس إلى فمها ثم وضعتها جانباً ولم تشرب منها بسبب تربيتها المحافظة. استغل شوقي المشهد فكتب قصيدته في عام 1932 (أي في سنة وفاته).
وذهب بنفسه إلى دارها وقدمها لها كهدية، فاحتفظت أم كلثوم بها ولم تغنها إلا بعد أن بدأ تعاونها مع السنباطي في عام 1936، حيث أوكلت إليه تلحين تلك القصيدة، لتبدأ معها العلاقة الكلثومية ــ السنباطية، التي دامت 38 سنة متواصلة.
في عام 1946، حينما كانت مصر تعاني من الاحتلال البريطاني، وأهلها حانقون على الإنجليز، قادها ذكاؤها إلى اختيار 21 بيتاً من أصل 71 بيتاً من قصيدة شوقي «سلوا قلبي»، المعروفة أيضاً باسم «في ذكرى المولد النبوي»، وطلبت من السنباطي أن يلحنها، فأجاد كعادته التلحين، وخاصة في بيت «وما نيلُ المطالب بالتمني..
ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً»، الذي ردده الجمهور المطالب بزوال الاحتلال بحماس، وتردد صداه في مختلف أنحاء مصر والعالم العربي.
ومن «سلوا قلبي» إلى قصيدة «نهج البردة» التي عارض فيها شوقي قصيدة البردة الشهيرة للإمام البوصيري، حيث اختارت الست 30 بيتاً من أصل أبياتها الـ160، وكلفت السنباطي بتلحينها عام 1946. تلى ذلك قيامها في عام 1948 بغناء رائعة أخرى من روائع شوقي، هي قصيدة «النيل»، التي يقول مطلعها: «من أي عهد في القرى تتدفق..
وبأي كف في المدائن تغدق». ومن «النيل» إلى «ولد الهدى»، التي ظلت تتردد إلى اليوم في حلقات الذكر والموالد الشعبية بسبب طبيعتها الصوفية. بعد ذلك غنت من كلمات شوقي في عام 1965 قصيدة «إلى عرفات الله»، التي برع السنباطي في وضع لحن صوفي رائع يناسب مشاهدها، وقبل ذلك في عام 1954 غنت لشوقي 16 بيتاً من قصيدة «الجلاء»، التي يقول مطلعها:
بأبي وروحي الناعمات الغيدا
الباسمات عن اليتيم نضيدا
الراويات من السلاف محاجرا
الناهلات سوالفا وخدودا