تعتز الأمم بلغاتها وتدافع عنها وتعمل على نشرها بين غير الناطقين بها من خلال تأسيس المعاهد والمراكز الثقافية غير الربحية حول العالم مع الإنفاق عليها بسخاء، على نحو ما تفعله بريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين مثلاً من خلال «المجلس الثقافي البريطاني» و«الألياس فرانسيز» و«معهد غوته» و«معهد كونفوشيوس» على التوالي.
أما اللغة العربية التي نعاها شاعر النيل حافظ إبراهيم (1872 ــ 1932) قبل أكثر من 80 عاماً بقوله: «أنا البحر في أحشائه الدر كامن/ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي/ فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني/ ومنكم وإن عز الدواء أساتي» فلا تزال عرضة للإهمال، بل باتت تعاني من ضمور متواصل بسبب تراجع الحديث والكتابة بها من قبل أبنائها لصالح اللغات الأجنبية، وهذا بدوره ناجم عن تعدد ثقافات الوافدين في المجتمع، وضعف مستوى تعليم اللغة العربية في مراحل الدراسة الأساسية، وغياب قوانين ملزمة لحماية اللغة القومية، وتدفق المعلومات بشكل كبير وسريع عبر الإنترنت بلغات أجنبية.
الجزئية الأخيرة من حديثنا هو رأي الدكتور محمد عبد الرحيم كافود الذي يعد اليوم واحداً من أشد المنافحين عن العربية وأكثرهم شهرة، خصوصاً وأنه متبحر في شؤونها بحكم دراسته الأكاديمية ومناصبه التربوية المتنوعة على مدى أكثر من أربعة عقود، بل يعد أحد أعمدة الفكر العربي من المهمومين بأحوال اللغة والتراث وشؤون الأدب والحضارة الإنسانية على الصعيدين الخليجي والعربي.
ولد محمد بن عبد الرحيم بن أحمد كافود بمنطقة مشيرب بالدوحة سنة 1949، وينتمي إلى جيل الزمن الجميل ببساطته وصفائه وتعاضده ونقائه.
أما دراسته فقد كانت أولاً بمدرسة الوسط الابتدائية بالقرب من مصلى العيد، والتي درس فيها لمدة سنتين قبل أن ينتقل منها إلى مدرسة خالد بن الوليد الابتدائية في مشيرب بالقرب من فندق سوفتيل الحالي، وذلك طبقاً لما رواه شخصياً لصحيفة «الشرق» القطرية (3/11/2017)، حيث أخبرنا أنه بعد افتتاح مدرسة خالد بن الوليد ومدرسة صلاح الدين الابتدائيتين وفق مواصفات حديثة، تم توزيع طلاب مدرسة الوسط على هاتين المدرستين، فكان نصيبه المدرسة الأولى على الرغم من اختياره الدراسة في المدرسة الثانية لقربها من منزله.
كما أخبرنا أن الحافلات كانت تقوم آنذاك بتوصيل الطلبة من وإلى المدارس. أما لجهة مناهج الدراسة الابتدائية في تلك الفترة، والتي اجتازها بهمة ونشاط، فقد كانت مزيجاً بين المنهج المعتمد في مصر وذلك المعتمد في بلاد الشام.
يقول كافود ساخراً: «أتذكر كان من ضمن المنهج (عندما يأتي الربيع تتفتح الأزهار والورود)، ونحن ليس عندنا لا زهور ولا ورود في تلك الحقبة». ويستدرك قائلاً: «ولكن بعد فترة تم إنشاء حديقة في منطقة مشيرب بجانب (عين القعود) في منتصف الستينيات، وبدئ بزراعة الورود والزهور وكسا اللون الأخضر تلك الحديقة، فكنا سعداء».
ويثمن كافود جهود المدرسين الوافدين العرب لجهة وضع مناهج قوية ولجهة قيامهم بواجباتهم التربوية بأمانة وإخلاص ودون ترغيب الطلبة في دروس التقوية الخاصة، ما ساهم في نجاح التعليم في تلك الحقبة، ويشير إلى دور الأسر آنذاك لجهة الحرص على تعليم أبنائها دون أن يكون لها تأثير في متابعتهم بسبب أمية الأب والأم، كما يشير إلى دور الدولة التي خلقت بيئة تعليمية مريحة كانت تتميز بتقديم وجبتي إفطار وغداء مجاناً وصرف ملابس صيفية وشتوية ومنح كل طالب راتباً شهرياً قدره 45 روبية.
ومما تذكره من طرائف فترتئذ هو أن المدرسين الوافدين كانوا يشجعون الطلبة على الإكثار من أكل السلطة «ونحن في تلك الفترة لا نعرف السلطة.. ما كان عندنا طماطم أو جزر، كنا نعتمد على الأوراق الخضراء مثل: البربير والرويد (الفجل) والبصل الأخضر والبقل (الكراث) مع وجبة الغداء أو العشاء».
كما تذكر أنه شارك مرتين، إبان دراسته الابتدائية، في مسابقة حفظ القرآن السنوية، وفاز في كل منهما بجائزة كانت عبارة عن قلم باركر الذي كانت له قيمة كبيرة آنذاك.
أراد صاحبنا بعد تخرجه من الابتدائية الالتحاق بالمدارس الإعدادية والثانوية، لكنه غيّر وجهته إلى المعهد الديني بتشجيع من مدرسه المصري بسبب تفوقه في العلوم الشرعية واللغة العربية مقابل ضعفه في مواد الرسم والتربية الرياضية.
كانت فترة دراسته في المعهد الديني سعيدة ومثرية وحافلة بالأنشطة غير الصفية كالأنشطة المسرحية والكشفية والمهرجات الرياضية، إلى جانب حراك ثقافي.
وفي المعهد الديني شارك في الحركة الكشفية التي عودته على الاعتماد على النفس والعمل اليدوي والإندماج الاجتماعي، كما حرص على التردد على مكتبة المعهد وعلى «دار الكتب القطرية»، فاستفاد كثيراً من الاطلاع على كتب قيمة ومخطوطات ودوريات ومجلات وجرائد متنوعة، ما عزز معارفه العامة وزوده بذخيرة ثقافية واسعة.
وهكذا وجد كافود نفسه متخرجاً من المعهد الديني وأمامه فرصة الابتعاث مع آخرين على نفقة الدولة إلى مصر لدراسة أحد تخصصين (الشريعة أو اللغة العربية)، فسافر مع زميله عبد الرحمن المحمود إلى القاهرة، بينما سافر باقي زملائهما إلى الرياض للالتحاق بالمعهد العلمي الذي تحول لاحقاً إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
كان وصوله إلى القاهرة في وقت كانت فيه العاصمة المصرية تعج بنشاط وحراك ثقافي متنوع، فيما كانت جامعاتها مقصداً للطلاب العرب من كل جنسية.
هناك اختار صاحبنا دراسة اللغة العربية بجامعة الأزهر، رغم نفور الطلبة من هذا التخصص لصعوبته، فبذل قصارى جهده من أجل إثبات كفاءته وجدارته بالابتعاث، لكنه في الوقت نفسه لم ينس الاستفادة القصوى من تواجده بمصر في تعزيز حصيلته الثقافية والمعرفية من خلال التردد على المسارح وصالات السينما وحضور الندوات والصالونات الثقافية والمشاركة في أنشطة طلاب قطر المبتعثين الذين كانوا يتجمعون في مسكنه بشارع المساحة في منطقة الدقي، الذي عاش فيه مع الموسيقار القطري الراحل عبد العزيز ناصر والطالب عبدالله صادق.
وبعد سنوات من حياة التغرب، وصفها بالمريحة والمرفهة بسبب حصوله على راتب شهري قدره 55 جنيهاً (فيما كان راتب أستاذ الجامعة المصري وقتها أقل من 20 جنيهاً) وبسبب مزاملته لثلة من خيرة شباب بلاده من أمثال طالب الهندسة راشد المناعي وطالب الموسيقى عبد العزيز ناصر وطالب الطب العام عبد الجليل الباكر وطالب طب العيون سعد سعيد وطالب القانون خليفة دعلوج الكبيسي، أنهى كافود في عام 1974 دراسته وتخرج حاملاً ليسانس الآداب (تخصص لغة عربية) بتقدير جيد جداً.
وعلى إثر ذلك عاد في 1975 إلى الدوحة ليعين معيداً بكلية التربية بجامعة قطر. لكنه عاد مجدداً إلى القاهرة عام 1976 لنيل درجة الماجستير عن رسالة بعنوان «الأدب القطري الحديث».
وحول هذا المنعطف من حياته أخبرنا أنه فوجئ بعدم وجود مراجع يستعين بها في رسالته، فاعتمد على المنشور في الصحافة وما وجده من مخطوطات قديمة في دار الكتب القطرية، وكان ينقل المواد كتابة بخط اليد لعدم انتشار مكائن النسخ والتصوير آنذاك.
أنهى صاحبنا مستلزمات الماجستير في الوقت المحدد عام 1978 بتقدير ممتاز، وعاد إلى الدوحة ليتولى شؤون الطلبة وأمانة مركز البحوث والدراسات بجامعة قطر لبعض الوقت قبل أن يتم تعيينه مدرساً مساعداً من عام 1978 وحتى عام 1981.
عشقه للتحصيل العلمي في مجال تخصصه الأكاديمي لم يتوقف عند هذا الحد، بدليل أنه واصل تعليمه لنيل درجة الدكتوراه، فحصل عليها بالفعل من جامعة الأزهر سنة 1981 عن أطروحة بعنوان «النقد الأدبي الحديث في الخليج العربي» مع مرتبة الشرف الأولى. وبهذه المناسبة أقامت له جامعة قطر حفل تكريم خاصاً في ديسمبر 1981 حضره دكاترته الأزهريون.
لم يكن حصوله على هذه الدرجة العلمية الرفيعة سهلاً، إذ اضطر للتنقل من أجل المراجع ما بين مكتبات العراق والكويت والبحرين وشرق السعودية.
وتذكر كافود أنه إبان تواجده في الكويت حصل على مساعدة قيمة من رابطة الأدباء الكويتيين ومن الدكتور محمد غانم الرميحي، بينما استعان في البحرين بأقدم جرائدها (جريدة البحرين التي صدر عددها الأول عام 1939) ووجد فيها ضالته فيما يتعلق بالصراعات الثقافية بين النقاد وكتاب البحرين وشرق السعودية، وأنه سعد بوجود آلة تصوير ونسخ لدى أحد تجار سوق «باب البحرين»، فصور ما كان يحمله من مجلدات ضخمة.
مشواره التالي حفل بتوليه العديد من المناصب وحصوله على الترقيات الأكاديمية. حيث عين مدرساً بقسم اللغة العربية (1981 ــ 1986)، ثم تدرج بعد ذلك من أستاذ مساعد إلى أستاذ سنة 1993.
وفي غضون ذلك تولى منصب عميد شؤون الطلاب (1988 ــ 1991)، ومنصب عميد كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في الفترة (1991 ــ 1995)، ثم تولى منصب نائب مدير جامعة قطر للبحوث وخدمة المجتمع. بتاريخ 30 أكتوبر 1996 كان كافود على موعد مع اختياره من قبل أمير قطر في تلك الفترة لتولي حقيبة التربية والتعليم والتعليم العالي والثقافة.
فراح الرجل يجتهد في ما أوكل إليه من مسؤوليات لجهة تطوير العملية التربوية منهاجاً ومعلمين وطرق تدريس، وقام بتكوين لجان خاصة لوضع تقارير شاملة عن حالة التعليم مشكلة من كبار التربويين وأساتذة الجامعات والخبراء برئاسته، وحارب بضراوة الجهات المعيقة ذات المصلحة من بقاء الأوضاع على حالها دون تطوير.
وإبان توليه حقيبة التربية والتعليم والثقافة، طالب بفصل الثقافة عن التربية والتعليم، فاستجيب لاقتراحه وتغير مسمى منصبه الوزاري إلى وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، وتم تشكيل المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث الذي تسلم رئاسته في الفترة (2004 ــ 2006)، أي بعد خروجه من الحكومة في عام 2001.
وخلال توليه هذا المنصب الجديد طالب بأن يكون للمجلس القدر الكبير من الاستقلالية، فتم تشكيل مجلس أمناء ومجلس إدارة وتخصيص ميزانية ضخمة مستقلة للإنفاق على أنشطة ومهرجانات ثقافية سنوية وإشعال الساحة بحراك ثقافي وفني متواصل، من خلال استضافة فرق شعبية أجنبية وإقامة معارض للفنون التشكيلية وأمسيات شعرية وموسيقية وعروض للأفلام السينمائية العالمية.
ولكافود العديد من المؤلفات الرصينة في تخصصه، منها: الأدب القطري الحديث (1982)، النقد الأدبي الحديث في الخليج العربي (1982)، ديوان أحمد بن يوسف الجابر (1983).
القصة القصيرة في قطر النشأة والتطور (1996)، دراسات في الشعر العربي المعاصر في الخليج العربي (1994)، الشعر العربي الحديث في قطر (1994)، دراسات في المسرح القطري (1987)، تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها (2014)، اللغة العربية في الفضائيات (2014). كما يمتلك مكتبة ضخمة كوّنها خلال مراحل عمره، تحتوي على نحو 17 ألف عنوان و30 ألف نسخة.
وأخيراً، فإن صاحبنا عيّن عضواً مراسلاً لمجمع اللغة العربية المصري بناءً على ترشيح الأعضاء تقديراً لإنجازاته العلمية والثقافية، ونال عضوية مجلس أمناء مؤسسة البابطين للشعر في الكويت، واللجنة الاستشارية لمؤسسة الفكر العربي في لبنان، ومنتدى الوسطية في الأردن، واختارته لجنة جائزة كتارا للرواية العربية لنيل «درع الضاد» عام 2009، تقديراً لإسهاماته ودفاعه عن اللغة العربية، واستضافه وكرمه منتدى الأثنينية الثقافي الأدبي بجدة كأحد رواد الثقافة والفكر في الخليج.