ما اصطلح عليه عربياً بأنها (قضية القضايا) وهي القضية الفلسطينية، وبعد نحو عشرة أشهر من الحرب، التي دفع فيها الفلسطينيون أساساً في غزة، وفي الضفة، أثماناً دموية هائلة، يشتد النقاش حول القضية عربياً ودولياً. ما يهم هنا هو النقاش العربي؛ فالموقف الدولي أكثر تعقيداً.
عربياً لا أعرف النسبة، ولكن هناك اختلافاً يكاد يبلغ الانشقاق بين المتابعين العرب، بل حتى في الصف الفلسطيني، بين مؤيد لاستمرار الحرب، وتقديم الضحايا إلى نهاية آخر رجل أو امرأة أو طفل، وبين من يعتبر أن الثمن الذي دفع هو أكبر بكثير مما يمكن أن يجنى سياسياً من الحرب، والاختلاف قائم، وفي بعض الأوقات يصل إلى مكان يفقد بعض المشاركين فيه بوصلة الموضوعية.
القضية الفلسطينية ليست كأية قضية أخرى في التاريخ الحديث والمعاصر، ولذلك لا توجد سابقة يمكن أن يقاس عليها لرسم نهايات لهذا الصراع، بصرف النظر عن العواطف، التي هي طبيعية في ضوء المعضلة التي أمامنا.
القضية ليست مثلاً كالقضية الفيتنامية، ولا الأفغانية، ولا الجزائرية، على الاختلاف النسبي في ما بينها، فتلك جميعاً تمثل مقاومة شعب على أرضه لمحتل من الخارج، وبالتالي أدوات مقاومته معروفه، بالسلاح أو بالتفاوض، أو بكليهما، مع دفع الكثير من الأثمان في الموارد وفي الدماء.
الشبه البعيد هو الصراع في جنوب إفريقيا، قلت البعيد، لأن الهيمنة البيضاء في جنوب إفريقيا هي هيمنة اقتصادية، والأكثرية في ذاك البلد من أهلها الأصليين السود، والبيض المهيمنون أقلية نسبية، أما في القضية الفلسطينية، فإن الاحتلال ليس اقتصادياً بحتاً، بل هو اقتصادي مركب على أفكار دينية وتاريخية، وأيضاً في جنوب إفريقيا كان هناك بُعد دولي شبه جماعي ضد ممارسات الحكومة البيضاء إلى حد المقاطعة في عقود حكم البيض الأخيرة.
في القضية الفلسطينية الأمر مختلف؛ فالمواقف في الدول الوازنة (غربية وشرقية) متعاطفة مع الإسرائيليين، لأسباب كثيرة تم ذكرها في الكثير من الدراسات، فدعمت اقتصادياً وسياسياً وتسليحاً.
ما تقدم يؤكد عقلاً أن هذه القضية لا تشبه غيرها في الكثير من العوامل، أضف إلى ذلك أن السود في جنوب إفريقيا كانوا موحدين، أما الفصائل كما تسمي نفسها، فبينها خلاف لم تستطع أي عاصمة حتى الساعة أن تحله، تلك حقيقة مرة يجب ألا تغيب.
أمام كل هذه المعطيات الواقعية يتطلب الأمر التفكير بابتكار كيفية مواجهة الصلف الإسرائيلي، لعل الإشارة هنا التفكير في خطط المهاتما غاندي في العصيان المدني، أو شبه ذلك!
ليس لدي وربما ليس لغيري من خارج الفضاء الفلسطيني أية حلول، ولكن لدي معرفة نسبية بتاريخ القضية، وموقف التفكير العربي، بل حتى الفلسطيني من تلك المعضلة.
ما نراه أمامنا أن «حماس» تريد أن تبقى فاعلة في غزة وفي غيرها، والواقع أن العالم يرى أنها حركة (إرهابية) ولم يتكون وعي سياسي حصيف، بأن تكون «حماس» الجناح العسكري وتترك مثلاً لمنظمة التحرير التفاوض السياسي، لو تم ذلك لحققت الحرب الكثير من الأهداف الوطنية الفلسطينية. «حماس» تريد أن تحارب وتفاوض، بل زاد من عمق المأساة أن سمت «حماس» يحيى السنوار كقائد سياسي، وهو يعني سد الطريق من جهة، وربما كشف الرجل من جهة أخرى.
تزامنت تلك القضية تاريخياً مع وصول مجموعة حكمت بالرأي الواحد في بعض الدول العربية وقدمت شعارات ثورية مفرغة، على رأسها (تحرير فلسطين)، وفي نفس الوقت أفقدت أوطانها استقلالها، فبدت مطيعة وتابعة للمعسكر الشرقي أو الغربي، مع ازدراء للمصالح الوطنية، وبالتابعية افتقدت الحركة الفلسطينية استقلاليتها، ومعها قدرة المناورة، وما زالت بعض فصائلها تفعل.
نكاد نكون أمام معادلة غير قابلة للحل، والسبب الأنانية المفرطة مقرونة بجهل سياسي مغطى بشعارات.