مع بعض الفوارق البسيطة، سقطت خلال السنوات القليلة الماضية حكومات ثلاثة أقطار آسيوية، وفر قادتها إلى الخارج تحت ضغط الشارع نتيجة لسوء إدارتها للبلاد، فبعد أفغانستان وسريلانكا رأينا المشاهد نفسها تتكرر مؤخراً في بنغلاديش، التي فرت زعيمتها المنتخبة الشيخة حسينة واجد إلى الهند في مروحية عسكرية أمنها لها قادة الجيش الذين تسلموا إدارة البلاد منها بعد أن أبلغوها أنه ليس بمقدورهم مواصلة قمع المتظاهرين والمحتجين.
حسناً فعل كلا الجانبين، فالشيخة حسينة باستقالتها منعت وقوع المزيد من الضحايا في أسوأ احتجاجات تشهدها بنغلاديش منذ تأسيسها سنة 1971، والجيش باستلامه السلطة سلمياً وتأمين مغادرة زعيمة البلاد إلى الخارج وعدم قيامه بانقلاب عسكري سن سنة جديدة (قاد الجيش ثلاثة انقلابات ناجحة ونحو عشرين تمرداً فاشلاً كان آخرها في 2012).
والأمر الآخر الإيجابي الذي يحسب للجيش أنه قرر إسناد قيادة البلاد مؤقتاً إلى حكومة مدنية برئاسة النوبلي الموثوق به محلياً وعالمياً البروفسور محمد يونس، الذي نشفق عليه من الوقوع في وحول السياسة، خصوصاً وأن التجارب تقول إن السياسة في هذه البلاد مزيج من الفساد والمؤامرات والاغتيالات والمماحكات والانقلابات والاضطرابات.
إن التجارب المؤلمة التي مرت بها حسينة، ابتداءً من اغتيال والدها المؤسس الشيخ مجيب الرحمن في أغسطس 1975 مع كل أفراد عائلته (باستثناء حسينة واجد وأختها ريحانة صديق اللتين كانتا خارج البلاد آنذاك)، وصولاً إلى أكثر من 19 محاولة اغتيال فاشلة تعرضت لها على مر السنين، وقيام العسكر بسجنها مع غريمتها زعيمة الحزب الوطني خالدة ضياء في عام 2007 بتهمة الفساد، أسهمت كلها في تشكيل نهجها السياسي في الإمساك بالسلطة بقبضة حديدية والاقتصاص من معارضيها وكسر شوكتهم بإيداعهم السجن، وذلك لتأمين استقرار طويل للبلاد، على شاكلة ديكتاتوريات جنوب شرق آسيا.
وخلال حكمها منذ عام 2009 وحتى فوزها بنسبة 80% في انتخابات يناير 2024، التي قاطعتها أحزاب المعارضة، حققت الشيخة حسينة لبلادها الكثير من الإنجازات المثيرة للإعجاب، مثل انتشال الملايين من براثن الفقر، وتحويل البلاد إلى ثاني أكبر اقتصاد في جنوب آسيا بعد الهند بقيمة 460 مليار دولار، واستئصال الأحزاب الإسلاموية المتطرفة من السياسة، وإخراج الجيش من اللعبة السياسية على طريقة النموذج الهندي، وتوفير المأوى لأكثر من مليون لاجئ من مسلمي ميانمار عام 2010، والانتقال بالبلاد من دولة تكافح من أجل الطعام إلى مصدرة للغذاء، وتوفير التعليم المجاني لنحو 98% من الفتيات، والبدء بنقل البلاد إلى التصنيع عالي التقنية، وهو ما سمح للشركات العالمية، مثل سامسونغ الكورية، بإخراج سلاسل التوريد من الصين إلى بنغلاديش.
هذا ناهيك عن تأسيسها علاقات خارجية متوازنة مع جارتي بنغلاديش الكبيرتين (الهند والصين)، ومع الولايات المتحدة، بدليل نيلها ثناءً نادراً من واشنطن، وتمكنها من الحصول على قروض بقيمة 4.7 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، وأخرى من الهند بقيمة 7 مليارات دولار، علاوة على قرض من الصين كانت تتفاوض عليه بقيمة 5 مليارات دولار. على أن كل تلك الإنجازات ضاعت بسبب حزمها وسياساتها الحديدية، لتجد نفسها اليوم معزولة في الهند، التي استقبلتها مؤقتاً ريثما تقرر وجهتها المقبلة.
ولا يعرف على وجه التحديد ما تنوي القيام به مستقبلاً، لكن كل المؤشرات تفيد بأنها ستعود إلى بنغلاديش، كما فعلت من قبل، لقيادة حزبها التاريخي (رابطة عوامي) في الانتخابات المقبلة، التي يجب أن تجرى خلال 90 يوماً طبقاً للدستور، حيث إن إجراء هذه الانتخابات التي وعد بها العسكر، دون مشاركة «عوامي»، يعتبر عملاً معيباً ومؤججاً للقلاقل، وغير ديمقراطي.
وفي حالة تقاعد حسينة عن العمل السياسي بسبب سأمها من الإذلال السياسي، يتوقع أن يقود ابنها ووريثها «سجيب واجد جوي» الحزب على عادة السلالات الآسيوية.
وقد سجل عن الأخير (عمل مستشاراً لوالدته لتكنولوجيا المعلومات من 2009 إلى 2024، وهو يقيم الآن في أمريكا) قوله إنه لا طموحات سياسية لديه، لكن إذا فرضت عليه قيادة «عوامي» فسوف يستجيب، مضيفاً: «أنا مقتنع بأنه إذا أجريت انتخابات حرة ونزيهة في بنغلاديش وكانت ساحة اللعب متكافئة، فإن عوامي ستفوز مجدداً».
وبانتظار ما ستؤول إليه أوضاع هذا البلد الذي يواجه اليوم متاعب اقتصادية من جراء أعمال عنف شلت البلاد لنحو شهر، التي بسببها خفضت الوكالات العالمية المختصة تصنيفه الائتماني، ونجد أن ثلاث دول تراقب تطورات الأوضاع فيه باهتمام، الهند الحريصة دوماً على أن تكون في دكا حكومة موالية لها، أو على الأقل غير حليفة لإسلام آباد، وباكستان التي لن تغفر للبنغلاديشيين تمردهم عليها وفصل جناحها الشرقي لتأسيس دولتهم المستقلة، والصين التي يشغلها إيجاد نفوذ دائم لها في بنغلاديش في مواجهة النفوذ الهندي.