مجدداً تدفع عائلة شيناواترا، المعروفة بطموحاتها السلطوية غير المحدودة، تايلاند نحو المجهول. فوصول ابنتها الشابة «بيتونغتارن شيناواترا» أو «أونغ إينغ» إلى رئاسة الحكومة، لا يعني سوى أن البلاد سوف تعيش حالة من التقلب والاضطراب وعدم اليقين.
صحيح أنها شخصية كاريزمية ومعروفة في عالم العقارات والفنادق وتلقت تعليمها في بريطانيا، إلا أنها لا تملك أدنى تجربة سياسية، سوى أنها شاركت وهي حامل في انتخابات 2023 كداعمة لحزب والدها المعروف باسم «بيوا تاي» (حزب شعبوي مناهض للملكية سراً ويرتدي أنصارها القمصان الحمراء وأغلبهم من الريفيين الفقراء). وهذا، بالطبع، ليس ما تريده تايلاند المحتاجة إلى زعيم قوي ينعش الاقتصاد المتعثر ويؤمن الاستقرار الطويل ويمنع وقوع الانقلابات العسكرية.
من الواضح لدى عموم التايلانديين أن والديها كانا يعدانها للعمل السياسي ويخططان لدفعها إلى المعترك في انتخابات عام 2027، كوجه شبابي يمثل الأمل والتغيير، لكن يبدو أنهما قررا أن يسرعا الجدول الزمني ويقحماها في العمل السياسي دون جهوزية تامة. والسبب هو القرار المفاجئ للمحكمة الدستورية في 14 أغسطس المنصرم بإقصاء رئيس الوزراء «سريتا تافيسين» من منصبه بعد أقل من عام، على خلفية قيامه بتعيين وزير مدان بالرشوة في حكومته.
والحقيقة، من وجهة نظرنا، أن المحاكم التايلاندية تصدر قراراتها تحت ضغوط، مصدرها الجيش أو المؤسسة الملكية. فمثلاً هي التي رضخت لأوامر العسكر فأصدرت حكماً ضد زعيم حزب «التحرك إلى الأمام» التقدمي «بيتا ليمجارونرات» بدعوى أنه كان مساهماً في شركة إعلامية (أمر محظور بموجب قانون الانتخابات) وذلك للحيلولة دون تقلده منصب رئيس الحكومة خلفاً للجنرال «برايوت تشان أوتشا»، رغم تحقيقه للمركز الأول في انتخابات مايو 2023، وهو الأمر الذي أدى تلقائياً إلى ذهاب المنصب إلى صاحب المركز الثاني (سريتا تافيسين)، الذي شكل حكومة من ائتلاف 11 حزباً. وها هي نفس المحكمة تعود اليوم لتسقط الأخير بحكم قضائي. وقتها تنبأنا بأن تولي تافيسين قيادة البلاد لن يدوم طويلاً.
ويتذكر القراء الكرام أننا كتبنا في هذه الصحيفة في أغسطس 2023 عن اجتماعات سرية عقدت في جزيرة لانكاوي الماليزية بين ممثلين عن الجيش والقصر الملكي التايلاندي والمليادير «تاكسين شيناواترا» بهدف حلحلة الوضع السياسي المتأزم في تايلاند.
وقلنا: «يبدو أن صفقة قد تم التوصل إليها بين الفرقاء ملخصها أن يعود تاكسين شيناواترا إلى بلاده بعد 15 عاماً أمضاها في منفاه منذ الإطاحة به في انقلاب عسكري سنة 2006، ليقضي عقوبة السنوات العشر التي أصدرتها محكمة عليا بحقه في ثلاث قضايا فساد منفصلة مع تخفيفها أو إلغائها بعفو ملكي بحجة اعتلال صحته (ألغيت بعفو ملكي)، على أن يتزامن ذلك مع تسليم السلطة في البلاد إلى مرشحه سريتا تافيسين باعتباره الحائز المركز الثاني في انتخابات مايو، وعلى أن يتعهد تاكسين بالولاء للنظام الملكي والتخلي عن شطحاته السابقة ضد الملكية».
وبالفعل عاد تاكسين إلى بانكوك في 22 أغسطس 2023 في طائرته الخاصة وهو يزين معطفه بدبوس يحمل صورة الملك «ماها فاجيرالونغكورن»، بل سارع فور وصوله بالسجود أمام صورة لعاهل البلاد.
وتعليقاً على الحدث كتبنا: «إن تاكسين، الذي أفسد الحياة السياسية التايلاندية بخطابه الشعبوي ورشوته لمؤيديه من الطبقات الفقيرة منذ توليه السلطة سنة 2001 وطوال سنوات وجوده في المنفى عبر تحريك أنصاره من الخارج لإحداث الفتن والاضطرابات، لم يعقد صفقة مع خصومه إلا لكي يعود وينظم نفسه من جديد من أجل الانتقام وخلق قواعد جديدة للعبة السياسية، وإنه ليس جاداً في ادعاءاته بالولاء للملكية، وخصوصاً مع وجود مناهضين كثر للملكية في دائرته المقربة من أولئك الذين لن يقبلوا أن يتحولوا فجأة إلى حماة للعرش أو حتى أصدقاء لجنرالات أطاحوا به في 2006 ثم أطاحوا بشقيقته ينغلوك في 2014».
وبالعودة إلى ما حدث في بانكوك يوم 14 أغسطس الفائت، نجد أن تاكسين شيناواترا، بمجرد أن علم بسقوط حليفه وشريكه «سيريتا تافيسين»، تدخل لضمان حلول ابنته مكانه، من أجل تفادي انهيار التحالف الحاكم الذي يضم خليطاً غريباً من الأعداء والأصدقاء. وهو بهذا العمل انتهك أحد شروط العفو الملكي بعدم توجيهه البرلمان والحكومة من خلف الكواليس.
ومن هنا يرى المراقبون أن صفقة جزيرة لانكاوي قد ماتت، وبالتالي فإن المؤسسة الملكية ومن ورائها العسكر والأحزاب المحافظة ستسعى إلى تعطيل مشاريع أونغ إينغ، ولا سيما تلك المتعلقة بتبييض صفحة والدها وعمتها المنفية كلياً ونهائياً، وخصوصاً أن القصر لديه ما يستخدمه ضدها وهو تعليقات أدلت بها خلال حملات انتخابية العام الماضي حول إصلاحات قانون العيب في الذات الملكية (قانون يحمي الملك والملكة والوصي وولي العهد من النقد ويعاقب المتجاوز بالسجن لمدة 15 عاماً).