مع التقدم التقني الكبير في مجال الاتصال وتطبيقاته المتنوعة والذي أفرزته الثورة الصناعية الرابعة، أصبحت الحروب الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي إحدى سمات الوقت الراهن، فقد أسهم التقدم التقني الكبير في فتح عالم موازٍ في مقابل العالم الواقعي، وهو العالم الافتراضي الذي جذب ملايين البشر إليه، والذي يتميز بسمات مختلفة تماماً، حيث تنعدم فيه حواجز المكان والزمان، وتضعف فيه أدوات الرقابة والتحكم، وتنتشر فيه الرسائل والمحتويات عبر العالم بأسره في وقت خيالي لا يوصف، ولذلك فإن من يكنُّون العداوات والأحقاد ويضمرون مخططات الفوضى والفتنة يستغلون هذا الواقع أسوأ استغلال، فيشنون حملاتهم الإلكترونية لتحقيق مآربهم الخاصة، سواء لنشر أيديولوجيات متطرفة، أو إشاعات مغرضة، أو أخبار كاذبة، أو استعداء وتحريض وتشويه ومحاولة لزعزعة أمن واستقرار الدول والمجتمعات.
ومن صور ذلك ما يسمى بالذباب الإلكتروني، والذي يتخذ أشكالاً عدة، منها شكل حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي تدار من قبل أناس مرتزقة أو ذوي توجهات معينة للتأثير على الرأي العام وتضليل المستخدمين، والذين يسعون لخلق مظهر كاذب تجاه موضوع ما، وقد يتفننون في استخدام الشعارات الزائفة والعبارات البراقة، التي تساق في قوالب عدة بحسب طبيعة هذه الحملات، ويستخدمون استراتيجيات عدة منها إنشاء الوسوم الإلكترونية والتعليقات وإعادة توزيعها في مختلف أرجاء الصفحات والحسابات وتكرارها، وهو ما يسهم بنشرها في وقت وجيز، وهي قادرة بذلك على جعل وسم معين يتصدر قائمة الترند المحلي والإقليمي، كما أنها قادرة على استهداف مجموعة من المستخدمين في منطقة معينة، والسعي لتشكيل رأي عام مضلل.
ومن أهدافهم في ذلك محاولة إحداث الانقسامات الاجتماعية وخلق نزاع بين عدة أطراف يصب في مصلحة الجهة التي تقف خلف هذا الذباب الإلكتروني، حيث تعمل على استفزاز هذا الطرف ضد ذاك والعكس بالعكس، مستخدمين معرفات وهمية زائفة توحي بأن صاحب الحساب من الدولة الفلانية، وقد تكثر هذه الحسابات الزائفة لتوحي للجمهور بأنه هجوم حقيقي مقصود من شرائح ذلك المجتمع، وقد يوازي ذلك ظهور حسابات وهمية تتقمص دور الطرف الآخر، وهكذا تقوم هذه الحسابات بتراشق الاتهامات فيما بينها، في محاولة لجر الأبناء الحقيقيين لهذا المجتمع أو ذاك للفرقة والشقاق، وهو ما نراه بين الفينة والأخرى في مواقع التواصل الاجتماعي.
إن أول خطوة في مسيرة التصدي لهذا الذباب الإلكتروني معرفة هذه الحقيقة، والوعي بها، والحذر المسبق من أي حساب يثير أي أمر مريب، والاعتماد على المصادر الموثوقة، والتحلي بالتفكير النقدي، والعقل الذي يفكر ويحلل قبل أن يستجيب وينساق، ويعزز في نفسه منظومة دفاعية متكاملة من القيم الوقائية، والتي منها التثبت والتأني في الأخبار، انطلاقاً من قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}، ومنها عدم الاستعجال في النشر دون علم وتأكد، كما قال سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به علم}، وخاصة في القضايا المهمة التي تحتاج إلى متخصصين، وقد تكون لها أبعاد خفية، كما قال عز وجل: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}، ومنها حسن الظن، وخاصة بالقيادة والمجتمع، وعدم إلقاء السمع للمشوهين والطاعنين، كما قال تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين}، وغير ذلك من القيم التي تحصن الإنسان من الانجرار خلف أي ذباب إلكتروني.
ومن أفضل الوسائل للتصدي للذباب الإلكتروني عدم التفاعل معها، بل حظرها والإبلاغ عنها، فكل تفاعل مع هذه الحسابات الوهمية قد يعزز من انتشارها ويزيد من تأثيرها السلبي، وانطلاقاً من ذلك أطلق معالي الشيخ عبد الله بن محمد بن بطي آل حامد، رئيس المكتب الوطني للإعلام حملة مكافحة الذباب الإلكتروني، والتي لاقت تفاعلاً كبيراً في الداخل والخارج، لما تمثله هذه الحملة من أهمية كبيرة للتصدي لهذه الآفة الخطيرة التي تريد الشر بالمجتمعات والأوطان.
إن التصدي للذباب الإلكتروني ضرورة عصرية، لحماية المجتمعات منها، ولذلك فإن من واجب العقلاء والمثقفين نشر الوعي حول ذلك، وترسيخ قيم الوحدة الوطنية والثقافة الإيجابية، وتلك مسؤولية مشتركة، وعلى الأسر تعزيز هذه القيم لدى الأبناء والبنات، لينشؤوا على العقل والحكمة وروح المسؤولية تجاه مجتمعهم ووطنهم.