الحوكمة الثقافية هي واحدة من أبرز القضايا التي تثير اهتمام المجتمع الدولي اليوم، لا سيما في ظل التعددية الثقافية المتزايدة والعولمة المتسارعة التي تُلزم الدول بتطوير سياسات ثقافية مبتكرة لمواجهة التحديات الراهنة.
مع ذلك، يظل السؤال حول كيفية تحقيق الحوكمة الثقافية بشكل فعّال دون المساس بالهوية الوطنية، خصوصاً في الدول التي تتميز بتنوع ثقافي كبير مثل الإمارات. وهل يمكن أن تصبح الإمارات نموذجاً عالمياً في هذا المجال، أم أن هناك جوانب يجب استكمالها لتحقيق هذا الهدف؟
قمت سابقاً بدراسة تقرير اليونسكو لعام 2018 حول «إعادة صياغة السياسات الثقافية»، وتحدثت هنا حول هذا الموضوع في مقالات سابقة، وأعتقد أنه يجب استرجاع التقرير لدراسة أهمية تطوير سياسات مستدامة للحوكمة الثقافية، والتي تشمل تعزيز الإبداع، دعم التنوع الثقافي، وتوفير بيئة تُمكن الفنانين والمبدعين والمثقفين عامة من التنقل بحرية ونشر أعمالهم. والتوسع في التعريف بالمنتج والتراث الإماراتي، ورغم أن الإمارات قد حققت إنجازات كبيرة في هذا المجال، إلا أن الهدف الأساسي يجب أن يكون تأسيس نموذج مستدام وشامل يُعزز من مكانة الإمارات الثقافية لتصبح الأولى عالمياً.
على المستوى الفلسفي، نجد أن «جياكومو ليفي موريني»، أحد أبرز مفكري القرن الحادي والعشرين في مجال فلسفة الإدارة الثقافية، قد تحدث عن أهمية «الابتكار في الحوكمة الثقافية».
ويشير «موريني» إلى أن الحوكمة الثقافية التقليدية لا تواكب تطلعات الأجيال الجديدة، التي تعيش في عصر رقمي. لذلك يمكن للإمارات استكمال نهجها من خلال التركيز على دمج التكنولوجيا والابتكار في سياساتها الثقافية، حيث إن بناء منصات رقمية مخصصة للترويج للثقافة والأدب والفن والتراث الإماراتي على مستوى عالمي يمكن أن يُعزز من الوصول الثقافي. هذه الفكرة ليست فقط وسيلة للحفاظ على التراث، ولكن أيضاً لتوسيع نطاقه ليشمل جمهوراً عالمياً.
من ناحية أخرى، تحدث الفيلسوف الهندي «رافيندرا بارثيا» عن مفهوم «العدالة الثقافية»، مشيراً إلى أن الدول التي تسعى للريادة في مجال الحوكمة الثقافية يجب أن تضمن توزيع الموارد الثقافية بشكل عادل بين جميع فئات المجتمع، بغض النظر عن انتماءاتهم الثقافية أو الاقتصادية.
في حالة الإمارات، ورغم الاهتمام الكبير بتعزيز الفنون والثقافة، يمكن تعزيز الحوكمة من خلال التركيز على تقليل الفجوات بين المناطق الحضرية والريفية فيما يتعلق بالوصول إلى الموارد الثقافية. توسيع المبادرات الثقافية إلى المناطق الأقل تغطية سيسهم في تعزيز الشعور بالانتماء بين جميع سكان الدولة.
لكن الحوكمة الثقافية لا تقتصر فقط على السياسات الداخلية. حيث يقدم المفكر الأرجنتيني «خوان بابلو لافيرتي» رؤية جديدة حول أهمية «الدبلوماسية الثقافية» في تعزيز مكانة الدول على الساحة العالمية.
ويقترح «لافيرتي» أن الدول التي ترغب في أن تكون قائدة في الحوكمة الثقافية يجب أن تنظر إلى الثقافة كأداة دبلوماسية قوية. الإمارات، بوصفها دولة تحتضن أكثر من 200 جنسية، لديها فرصة فريدة لاستخدام هذا التنوع الثقافي كسلاح دبلوماسي لتقوية علاقاتها الدولية وتعزيز التعاون الثقافي مع الدول الأخرى. وهذا بدوره يمكن أن يرفع من مكانة الإمارات كدولة قائدة في تبني حوكمة ثقافية شاملة تتجاوز الحدود الجغرافية.
كذلك نجد أن الفيلسوف الفرنسي المعاصر «كريستوف دي سانتير»، قد تناول مفهوم «التنوع الثقافي كعامل للوحدة»، مشيراً إلى أن الدول التي تتبنى سياسات قوية تدعم التنوع الثقافي غالباً ما تكون أكثر استقراراً على المدى الطويل. ويعزز «دي سانتير» فكرته بأن الاستفادة من التنوع الثقافي ليس فقط من خلال دعمه شكلياً، بل من خلال إدماجه في سياسات التعليم والإبداع. وهنا يمكن لدولة الإمارات الاستفادة من هذا المنظور من خلال دعم برامج تعليمية وثقافية تشجع على الحوار بين الثقافات المختلفة وتعزز من مفهوم «الوحدة في التنوع».
أخيراً، يشير المفكر البريطاني «ريتشارد دوفيلد» إلى أن الحوكمة الثقافية الناجحة تعتمد على المرونة في التعامل مع التغيرات العالمية. ويؤكد «دوفيلد» أن الدول التي تعتمد على سياسات ثابتة تخاطر بأن تصبح متأخرة في مواكبة التحولات العالمية. يبدو لزاماً أن تكون الإمارات على استعداد دائم لتعديل وتطوير سياساتها الثقافية بما يتلاءم مع التغيرات في الاقتصاد العالمي والتحولات التكنولوجية. بناء على هذا النهج، يمكن للإمارات تعزيز قدراتها على تبني سياسات ثقافية مرنة تُركز على الاستدامة والابتكار المستمر.
نفخر دائماً أن الإمارات تمتلك بالفعل نموذجاً ناجحاً في الحوكمة الثقافية، لكنها تمتلك أيضاً إمكانيات هائلة لتطوير هذا النموذج ليصبح عالمياً من خلال التركيز على الابتكار والعدالة الثقافية والدبلوماسية الثقافية. من خلال الاستفادة من التجارب العالمية الناجحة ومن أفكار الفلاسفة والمفكرين والخبراء والمختصين العالميين، يمكن للإمارات أن تتبوأ مكانة رائدة كأكثر الدول تقدماً في مجال الحوكمة الثقافية، مما سيعزز من استدامتها الثقافية ويسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، ويجعلها تتربع على قمة الحوكمة الثقافية العالمية.