لا تنسى هيلاري كلينتون أنها بحساب عدد الأصوات كانت هي الفائزة في انتخابات 2016، لكن لأن الفيصل بالنسبة إلى المرشح الفائز هو مجمل عدد أصوات المجمع الانتخابي، لا مجمل عدد أصوات الناخبين، فإن ترامب هو الذي دخل البيت الأبيض وقتها.

وليس سراً أن حكاية المجمع الانتخابي نظام تختص به الولايات المتحدة الأمريكية دون سواها، ولا تعرفه أمة غيرها في أنحاء الأرض، لكن تلك قصة أخرى لا مجال للتفصيل فيها هنا.

أما موضوعنا فهو الإحساس الذي لا يفارق هيلاري كلينتون بأن ترامب اقتنص المكتب البيضاوي منها. إنه إحساس يعيش داخلها ويستقر في أعماقها ولا يكاد يفارقها، حتى ولو كانت تعلم بينها وبين نفسها أنه فاز بطريقة دستورية قانونية صحيحة، ولم يحصل على شيء يخصها بشكل غير قانوني أو غير مشروع.

وهي لذلك لم تفوت الفرصة لممارسة الدعاية ضده، ولم تشأ أن تفوت مؤتمر الحزب الديمقراطي المخصص لتزكية كامالا هاريس مرشحاً رسمياً للحزب، فذهبت بنفسها وبزوجها بيل كلينتون لعلها تطفئ ناراً في وجدانها لا تخمد.

وهي بالطبع لم تصرح بحقيقة ما تحمله من مشاعر تجاه مرشح الحزب الجمهوري، ولن تصرح به في المستقبل، وإنما تفعل وتمارس ما يكشف عن حقيقة ما تكنه له، ولا تترك مناسبة تمر إلا وتنتهزها للنيل منه كمرشح ما استطاعت.

ولا تزال كلما سألوها عن السبب في إخفاقها أمامه تتهم السيدات الأمريكيات، وتقول إنهن خذلنها ولم يساندنها كما كان يتعين، ولكن هذا كلام من وراء القلب كما يقال، وهو يظل كذلك لأنه لا توجد إحصائيات أو بيانات دقيقة تثبت صحة ما تقوله. قد تكون هناك سيدات أمريكيات لم يبذلن أصواتهن لها بحكم الغيرة أو غيرها، ولكن لا يمكن القول بأن ذلك كان هو السبب الوحيد أو حتى السبب الأكبر وراء خروجها من السباق.

هذا «الثأر البايت» بينها وبين الرجل يحركها في كل الأوقات، وتحاول بالطبع إخفاءه، غير أنها تنجح في الإخفاء مرة وتفشل مرات. وتعبير «الثأر البايت» معروف في صعيد مصر كما نعرف، وفي مرات كثيرة نقرأ عن رجل في الصعيد قتل رجلاً آخر، ثم نطالع في التفاصيل عن «ثأر بايت» وأن هذا الثأر عمره عشر سنوات أو أكثر أو أقل، وأحياناً يصل عمره إلى عشرات السنين، لأنه لدى الإخوة في الصعيد لا يسقط بالتقادم، ولا ينساه صاحبه مهما مرت الأعوام والسنون.

شيء من هذا تحسه في تصرفات هيلاري وفي حديثها كلما وردت سيرة ترامب أمامها، فتجدها تستنفر كل قواها وتحتشد كما لم تحتشد من قبل.

آخر المرات التي احتشدت فيها واستنفرت كل قوة في داخلها، كانت عندما طلبوا منها في مقابلة تلفزيونية أن تنصح كامالا هاريس فلم تدخر جهداً، وسارعت على الفور تنصحها بأن تستفزه دائماً ما استطاعت إلى استفزازه من سبيل.

وهي بهذه النصيحة تتكلم على أساس تجربة لها أولاً، لأنها خاضت أمام ترامب تجربتها الانتخابية الأكبر، وكانت على مرمى حجر من البيت الأبيض، وبالتالي، فهي أدرى به من غيرها، وهي كذلك تعرف ماذا يمكن أن ينال منه كمرشح في السباق إلى البيت الأبيض أمام هاريس وماذا لا ينال؟ وهي ثانياً تقدم خلاصة تجربتها لهاريس من دون مقابل، إلا أن يكون هذا المقابل هو سقوط ترامب وإخفاقه، فعندها ستشعر بينها وبين نفسها بأنها تقاضت من هاريس مقابل تقديم التجربة وزيادة.

إنني أتكلم عما هو نفسي عميق بينها وبين ترامب، وأتكلم عما عاشت نفسياً تعانيه من بعد فوزه وإخفاقها، فلقد كانت على موعد مع أن تكون أول سيدة تدخل البيت الأبيض رئيساً، لولا أن العزم إذا كان قد صح منها، فإن الدهر، على حد قول الشاعر، قد أبى!

ولو أن أحداً قارن بين صورة لهيلاري كلينتون قبل إخفاقها في السباق، وصورة أخرى لها هي نفسها هذه الأيام، فسوف يرى كأنها كبرت مئة سنة يوم خرجت من السباق، رغم أن بيننا وبين خروجها ثماني سنوات لا تزيد!.. ولماذا لا تكبر وقد تداعى حلمها الأكبر أمامها في لحظة؟.. ثم إنها ذاقت حلاوة السلطة عندما كانت وزيرة لخارجية أوباما.