المطرب والملحن المصري القدير، الراحل سيد مكاوي، الشهير باسم «الشيخ سيد»، غني عن التعريف فهو من شنف آذان عشاق الطرب الأصيل بأحلى الألحان، وأشهرها بطبيعة الحال اللحن الجميل الذي وضعه لآخر أغاني أم كلثوم الخالدة، وهي أغنية «يا مسهرني» من كلمات أحمد رامي في عام 1972. ومن ألحانه الأخرى «شعوري ناحيتك» و«أوقاتي بتحلو» لوردة الجزائرية (كان من المقرر أن تغنيها أم كلثوم لكن وفاتها حالت دون ذلك)، «أنا هنا هنا يابن الحلال» لصباح، حكايتنا إحنا الإثنين لليلى مراد، اسأل مرة علي لمحمد عبدالمطلب، لو بتعزني لنجاة، مبروك عليك يا معجباني يا غالي لشريفة فاضل. عدا عن الألحان التي تغنى بها بنفسه مثل: حلوين من يومنا والله، وحياتك يا حبيبي، وليلة إمبارح، وكده كده يحلو الكلام، وكل مرة لما بواعدك، وغيرها.

والمعروف أنه كان قاب قوسين أو أدنى من تلحين أغنية أم كلثوم الستينية أنساك، التي لحنها الموسيقار بليغ حمدي بدلاً منه، لولا اختلافهما على الأجر. وفي رواية أخرى أن أم كلثوم أعطت لكاتب الكلمات (مأمون الشناوي) ثمن عمله ولم تعطِ الشيخ سيد شيئاً في مقابل اللحن، فعرف أنها قبلت الكلمات ورفضت اللحن، فبكى وظل يتحين الفرص كي يكون ضمن قائمة من لحنوا لكوكب الشرق إلى أن واتته الفرصة سنة 1972.

الكثيرون ربما لم يسمعوا بحكاية فقدان الرجل لبصره وكيفية تحوله إلى رجل كفيف. في هذا السياق روى لنا الكاتب علاء عبدالعظيم الحكاية في مقال له بجريدة أخبار اليوم القاهرية في أغسطس 2024، فقال ما مفاده أن مكاوي كان طفلاً حينما فقد أباه، فظل يبكي عليه بحرقة ودون توقف واستمرت دموعه تنهمر مدراراً على خديه. خافت أمه عليه فهرولت بصغيرها إلى الأطباء ليكتشفوا ضياع نور عينيه إلى الأبد.

تغلب مكاوي بعد ذلك على مأساته بالرضوخ غصباً عنه لمصير من كان مثله كفيفاً، وذلك بالذهاب إلى الكتاب كي يغدو قارئاً يكسب قوته من قراءة القرآن في المناسبات الدينية والاجتماعية وحلقات الذكر أو رفع الأذان في الجوامع، وخصوصاً أنه كان صاحب صوت جميل، ما جعل معلميه يتنبأون له بمستقبل واعد في هذا المجال. لكن الشيخ سيد راح يرتل القرآن من جهة ويغني الموشحات لكبار الملحنين من جهة أخرى، وخصوصاً بعدما كبر والتحق بالأزهر الشريف.

وفي عام 1943، أي حينما كان في سن الخامسة عشرة (حيث إنه من مواليد الثامن من مايو 1928 في حارة قبودان بحي الناصرية في السيدة زينب) تعرف على عازف الكمان إسماعيل رأفت وشقيقه عازف القانون محمود عارف وأخذ يتردد عليهما ويستمع من مكتبتهما العامرة لأكثر من 3 أسطوانات على روائع سيد درويش ومحمد عثمان وعبده الحامولي وداوود حسني، ثم قرر أن يتعلم العزف على العود فتعلمه بسرعة. وتشاء الأقدار أن يلتقي صاحبنا في تلك الفترة من حياته بالملحن الكبير الشيخ زكريا أحمد (1896 ــ 1961) الذي أخذ بيديه ودربه على موسيقى وفن سيد درويش، فكانت تلك الموسيقى والأغاني الدرويشية سلوته الوحيدة في عزلته، ولا سيما أنه كان متمتعاً بذاكرة موسيقية قوية، فما إن يستمع للدور أو الموشح لمرة واحدة فقط حتى ينطبع في ذاكرته.

ظهر اسمه في الإذاعة المصرية لأول مرة من خلال تأديته لأغنية الورد فوق.. وجنات بهي الجمال وفي عام 1951 وضع أول ألحانه وكان لأغنية وطنية مطلعها بدمي يا مصر أفديكِ.. أفدي سماكِ وأراضيكِ. وتمر السنوات ويتغير النظام السياسي في مصر وترتبط القاهرة بموسكو بعلاقات ودية، فيعرض عليه السفر لعلاج عينيه في الاتحاد السوفييتي، لكن الشيخ سيد يرفض قائلاً: لقد تعودت على الظلام وأصبحت أخشى النور طبقاً لما نشرته مجلة آخر ساعة المصرية في عام 1967 على لسانه.

ورغم أنه ملحن لا يشق له الغبار، إلا أنه قبل في بداياته أن يغني من ألحان غيره، فغنى مثلاً أغنية محمد من ألحان صديقه عبدالعظيم عبدالحق، وغنى أغنية تونس الخضراء من ألحان أحمد صدقي. وهاتان الأغنيتان هما الوحيدتان اللتان غناهما من ألحان غيره. ويرجع للمكاوي فضل إقناع الإذاعة المصرية بضرورة وضع مقدمات غنائية للمسلسلات الإذاعية، فوضع بنفسه ألحاناً وأغاني واكبت تلك المسلسلات، مراعياً فيها الشكل الكوميدي وخفة الظل، وخصوصاً أنه عرف بخفة ظله وظرفه وقفشاته العفوية.