يواجه التراث الثقافي اليوم تهديدات مستمرة بالتهميش أو الاستيعاب ضمن ثقافات أكثر هيمنة، ويقدم الفيلسوف الفرنسي «ميشيل دي سيرتو» مفهوم «الذاكرة المضادة»، الذي يمكن من خلاله فهم التراث الثقافي، بوصفه أداة للمقاومة ضد الضغوط الخارجية التي تسعى لطمس الهويات الثقافية المحلية. ويمكن النظر إلى التراث الإماراتي، في ضوء هذا المفهوم، كذاكرة مضادة، تتصدى لتحديات العولمة، وتحافظ على هوية الأمة الإماراتية، بعيداً عن تأثيرات الحداثة السريعة.
وفقاً لـ «دي سيرتو»، فإن العولمة ليست مجرد توسع اقتصادي أو سياسي، بل هي أيضاً قوة تعمل على محو الخصوصيات الثقافية للأمم الصغيرة. إلا أن التراث الثقافي، بقدرته على المقاومة والمرونة، يعمل كذاكرة حية، تعيد تفعيل هوية الأمة، وتتصدى لمحاولات الهيمنة الثقافية. في حالة الإمارات، نجد أن التراث الإماراتي، سواء كان مادياً، مثل العمارة التقليدية والحرف اليدوية، أو غير مادي، مثل الأهازيج الشعبية والأزياء والأكلات الشعبية والشعر النبطي، يعبّر عن هذا الدور المقاوم، حيث يحافظ على قيم المجتمع الإماراتي الأصيلة، ويقاوم طمس الهوية المحلية.
يمكن أن نرى الأهازيج الشعبية والفنون التقليدية كأمثلة واضحة على هذه الذاكرة المضادة، إذ تستمر هذه الممارسات في التعبير عن روح الأمة الإماراتية، رغم التطورات التكنولوجية والاقتصادية. هذه الممارسات، ليست فقط إرثاً تاريخياً، بل هي وسيلة لإعادة إنتاج الهوية في مواجهة الضغوط الخارجية. فهي بمثابة صمود ثقافي، يُظهر أن التراث ليس مجرد سجلّ للماضي، بل أداة فعالة للمقاومة الثقافية والحفاظ على الهوية الوطنية.
ونلاحظ عموماً أن النقاش والنشاط التراثي، والمؤسسات المعنية، غالباً ما تتحرك في المراكز الحضرية الكبرى. لكن هذه النظرة المركزية، قد تُهمل الثروات الثقافية الكامنة في الفضاءات «الهامشية»، مثل المناطق الريفية، والتي تحمل في طياتها تراثاً غنياً، يعكس جوانب أصيلة من الهوية الإماراتية. واستناداً إلى أفكار الفيلسوف «إدوارد سعيد» حول «الهوامش»، يمكن اعتبار هذه الفضاءات غير المركزية، كجزء لا يتجزأ من الفضاء الثقافي الوطني، حيث تظل تلك الهوامش حية وفاعلة في حفظ التراث، وتستمر في تشكيل الهوية الإماراتية، في ظل التغيرات المتسارعة.
التراث الثقافي في المناطق الريفية، يتضمن تقاليد وممارسات لا تزال تحمل قيماً راسخة، تعكس الأصالة الإماراتية. الشعر النبطي، على سبيل المثال، يعبّر عن هوية أرض الإمارات الخالدة، وروح الحياة فيها، ويظل عنصراً حيوياً في الهوية الثقافية الإماراتية. إلى جانب ذلك، تظل الحرف التقليدية، مثل «السدو» وصناعة الفخار، تعبّر عن هذا التراث غير المركزي، حيث يتم نقل المهارات التقليدية من جيل إلى جيل، بعيداً عن أعين الجمهور الذي يُركِّز على الحداثة في المدن الكبرى.
ونجد أن «إدوارد سعيد»، في تحليله للهامش، يؤكد أن الهوامش ليست مجرد فضاءات منعزلة أو غير مهمة، بل هي جزء حيوي من النسيج الثقافي، الذي يغذي المركز، ويعيد تشكيله. هذا المفهوم يعيد النظر في كيفية فهم التراث الإماراتي، حيث لا يجب أن يُنظر إلى الفضاءات الريفية والبدوية كأطراف معزولة عن الحداثة، بل كعناصر أساسية، تُثري النسيج الثقافي الوطني. من خلال تسليط الضوء على هذه الفضاءات، يمكن للإمارات تعزيز الترابط بين المركز والهامش، بحيث تصبح الهوية الوطنية أكثر شمولية، وتعبّر عن كل مكوناتها الجغرافية والتاريخية.
يجب علينا أن نضع الاستراتيجيات التي تضمن التركيز على الفضاءات الريفية في الخطاب الثقافي الوطني. وتعزيز الترابط بين هذه المناطق والمراكز الحضرية، بحيث لا يُنظر إلى هذه المناطق كجزء منفصل أو متأخر، بل كجزء حيوي من التراث الذي يسهم في تشكيل الهوية الوطنية. الهوية الإماراتية لا تنحصر في المراكز الحضرية الحديثة، بل تمتد لتشمل التقاليد الثقافية العريقة، التي ما زالت تزدهر في الفضاءات الريفية.
كلنا نعلم أن الشعر النبطي في الإمارات، مثلاً، هو أحد أهم العناصر التي توحد الإماراتيين من جميع المناطق. فهو يعبّر عن الحياة اليومية، والأحداث الاجتماعية والسياسية، بطرق تتفاعل مع الفضاء الريفي والهامشي، وتُظهر كيف يمكن لهذا التراث أن يكون جسراً بين الأجيال والمناطق المختلفة. إن إعادة اكتشاف هذا التراث وتقديمه بطريقة تبرز أهميته في الحفاظ على الهوية الوطنية، هو خطوة مهمة لتعزيز الانتماء والوحدة الثقافية.