بعد تمدد رقعة الشركات العابرة للقارات، وارتفاع أعداد موظفيها، الذي يناهز حجم سكان عواصم عالمية، وبعد تعقد العمليات، وتكالب الضغوطات عليهم، صارت الحاجة ماسة إلى الانتباه لمفهوم «رفاهة الموظفين» (well-being).
فقد تبين أن اهتمام الشركات برفاهة العاملين، بات أمراً جوهرياً، لأنه يؤثر في استقالتهم، حيث أظهرت دارسة ذكرتها HBR، أن نحو 20 في المئة من العاملين، تتدهور معنوياتهم وتصل إلى أسوأ حالاتها قبل استقالتهم. فيتثاقلون في العمل، ويخلدون إلى النوم لساعات طوال، ربما هروباً من الواقع الأليم.
منظمة غالوب الشهيرة لاستقصاء آراء الناس، ذكرت أن بحوثها قد أظهرت أن تحلي الموظفين بالرفاهة في مكان العمل، يؤثر في حياتهم الشخصية، والعكس صحيح، حيث تؤثر مجريات حياتهم الشخصية في أعمالهم.
ولذلك، انتشر مفهوم well-being، الذي يترجمه قاموس أوكسفورد على أنه «حُسن الحال» أو السعادة. وربما كانت الترجمة الإنجليزية أدق، وهي «حالة يتمتع بها المرء بالصحة والسعادة». فهي أشمل من السعادة، وأوسع نطاقاً من المال بمفرده.
ولهذا، طور العلماء معاير مختلفة لقياس جوانب من رفاهة الموظف، منها «الرفاهة الاجتماعية»، وهي مقدار ما يتمتع به المرء من صداقات وعلاقات وطيدة مع محيطه، تمده بالدعم اللازم في حياته. وهناك «الرفاهة المالية»، وهي عندما يشعر الإنسان بقدرته على إدارة أمواله على النحو الذي يحقق له آماله وتطلعاته. وذلك لا يأتي بمعزل عن «الصحة البدنية»، فما فائدة المال والعلاقات، في ظل عدم المقدرة الصحية على ممارسة أبسط الأنشطة اليومية. كما وجد العلماء أيضاً شعوراً جميلاً، يعزز راحة الإنسان عند وجود «رفاهة في المجتمع»، أي أن الفرد يشعر بالانتماء إلى مجتمع يمكنه أن يندمج مع أفراده، ويشاركهم أفراحه وأتراحه.
وحتى يحقق الموظف الرفاه اللازم لتعزيز متعته وأدائه، فلا بد أن يتعلم كيف يحسن إدارة طاقته. فشتان بين إدارة الوقت وإدارة الطاقة. فهناك من «يحرق» جل سعراته الحرارية في ذروة وقت الإنتاجية الصباحية، وذلك بأن يهدره في جدال عقيم، أو التجول في مواقع التواصل الاجتماعي، على حساب المهام ذات المردود الأكبر على حياته ومستقبله.
هناك من يتمتع بالنوم الجيد، والاختيار الموفق للوظيفة، لكنه بعد مرور الوقت ينتابه شعور بالاحتراق الداخلي burnout، من شدة الضغوطات التي تسللت إلى حياته. فلا هو يمارس الرياضية، ليبدد شيئاً من ضغوطاته، ولا هو يرأف بحاله، عبر تخفيف التزاماته إلى الحدود المعقولة. والأسوأ، إذا امتد الاحتراق الداخلي منا كمديرين إلى مرؤوسينا، وذلك عندما نمطرهم بوابل من الطلبات والأعمال الشاقة.
هناك فارق بين الرفاهة والعافية. حيث يقصد بالرفاهة well-being، تمتع الفرد بصحة جيدة، فضلاً عن السعادة، في حين أن العافية wellness، فهي تتمحور حول تمتعه بصحة جيدة. ولذلك، كانت رفاهة العاملين مسألة أشمل من العافية، ويمكن أن يقوم بها قسم الموارد البشرية.
وقد كشفت دراسات عدة، أن هناك علاقة وطيدة بين تمتع الموظفين بالرفاهة (الصحة والسعادة)، وبين ارتفاع إنتاجيتهم. ولذلك تقدم كبريات الشركات برامج خاصة تدربهم على الحياة الصحية المريحة، فضلاً عن إكسابهم لمهارات إدارية وحياتية، تخفف من وطأة الحياة وواجبات العمل، مثل التعامل مع الضغوطات، ومهارات إدارة الطاقة، وتعزيز التواصل الفعال بين الفرق. وتقدم شركتا غوغل ومايكروسوفت، برامج نوعية للعناية بالصحة النفسية والجسدية، بما في ذلك جلسات التأمل، فضلاً عن ورش عمل لتطوير المهارات، مثل الذكاء العاطفي وحل النزاعات. كما توفر أرامكو السعودية لموظفيها، برامج تدريبية في إدارة التوتر، وتعزيز التوازن بين العمل والحياة الشخصية، ما يسهم في رفع مستويات الإنتاجية والابتكار والرضا الوظيفي.
واجهت صعوبة بالغة في الاستقرار على مصطلح عربي يناسب المفردة الإنجليزية well-being، وربما يعود ذلك إلى حداثته، فضلاً عن محدودية وجود برامج ترفع من مستويات رفاهة الموظفين. حيث أظهرت أبحاث غالوب، أن 60 في المئة فقط من الموظفين الأمريكيين، على دراية بوجود برنامج من هذا النوع في شركتهم، ومن بين هؤلاء، 40 في المئة فقط يشاركون فيها! هذا في بلد متقدم، فما بالنا في بلدان عربية، يتحرج فيها البعض من البوح بأي مشكلة نفسية تعترضه.
توفر شركات لموظفيها برامج تدريبية في إدارة التوتر وتعزيز التوازن بين العمل والحياة الشخصية ما يسهم في رفع الإنتاجية والابتكار