سخر كثيرون قبل سنوات حين بدأت ملامح حروب تختلف عن كل ما شهدته البشرية منذ بداية مسيرتها مع الحروب. حتى التنبيهات الخافتة مما نحن مقبلون عليه، والمطالبة بضرورة الجاهزية حتى لا نفاجأ بحرب لا نعرف عنها شيئاً في عقر دارنا، نالها ما نالها من اتهامات التهويل وشرارات التنكيت.
ولأن هذا الطور الجديد من الحرب مبهم المعالم، متشابك الخيوط، متداخل في الأمن والسياسة والترفيه والإعلام والاقتصاد والحرب وكذلك السلام، فقد بدا الأمر كأنها حرب من وحي الخيال، أو مجرد تهيؤات تعتري من يؤمن بنظريات المؤامرة أو يقرأ ويطلع على تصورات المستقبل.
أمضى – أو بالأحرى أهدر - كثيرون وقتهم في دحض التحذيرات، وتشويه سمعة المحذرين، مع وضع الخطط الإعلامية والاجتماعية التي تهدف إلى تكذيب هذا الخطر القادم.
الخطر لم يعد قادماً، بل قدم بالفعل منذ فترة طويلة، وأدوات وتكتيكات هذا الخطر، أو هذا الطور الجديد من أطوار الحروب، أصبحت واضحة وضوح الشمس، ولم يعد هناك مجال للإنكار أو وقت للتجاهل.
يتعامل البعض مع ما جرى من خرق لأجهزة اتصالات «البيجر» في جنوب لبنان، وانفجار أجهزة اللاسلكي المفاجئ والمباغت والصادم كأنه أول ملامح هذه الحروب الجديدة، ويطلق عليها «حروب الجيل الخامس». لكن الحقيقة هي أنها ليست الملمح الأول، بل الملمح الأقرب منا، من حيث الجغرافيا، وفي ضوء مجريات حرب غزة التي توشك على إتمام عامها الأول.
بدأت هذه الحروب منذ اختلطت الحدود الفاصلة بين الحرب والسلام. وتجلت مع توجه العديد من جيوش العالم، وجماعاته المسلحة، وحركاته شبه العسكرية في تبني أساليب حرب واعتداء عسكرية غير تقليدية، لا تهدف فقط إلى القتل والتدمير وإعلان النصر بناء على عداد الخسائر، ولكنها تهدف، وربما في المقام الأول، إلى ضرب الاقتصاد وتخريب الإعلام والوصول إلى البيوت عبر منصات افتراضية وإلحاق الضرر بالبنى الاجتماعية. كل ذلك يجري جنباً إلى جنب مع أساليب الحرب التقليدية التي لا تتوقف سبل تطويرها وتحديثها، بدءاً من الأسلحة، ومروراً بتدريب المقاتلين وتطوير الخطط الحربية والقوس مفتوح.
يقولون إنها حروب الجيل الخامس، أو إنها امتداد لحروب الجيل الرابع، وربما مقدمات لحروب الجيل السادس. المسميات لا تهم، ما يهم هو الانتباه أن «فنون» الحرب في حالة تغير وتطور دائم، ومن يعتقد أن الحرب تقف محلك سر، حيث دبابة وطائرة وصاروخ ومقاتلون، مهما بلغوا من مهارة وبراعة وتقدم، مخطئ.
ويشير كتاب «حروب الجيل الخامس: الهيمنة على المجال البشري» لمؤلفه آرمين كريشنان المتخصص في دراسات الحرب والتأمين (2024) إلى أن السرية، التلاعب بالوكلاء، التلاعب بالهوية والثقافة، التضليل والبيانات الضخمة، الحرب النفسية، تسخير التكنولوجيا الحديثة والرقمية لتحقيق المآرب وغيرها، يتم استخدامها في الأجيال الجديدة من الحروب بغية تحقيق الأهداف الاستراتيجية.
ويصل الأمر إلى استخدام التقنيات الحديثة للتحريض على السلوك المرغوب فيه والسيطرة على سمات مجموعات بعينها من البشر، من دون شرط اللجوء إلى الحرب العلنية أو العنف.
الحروب في طورها الحديث قد يصل بها الأمر إلى العمل على إعادة تشكيل مجتمعات بشرية معينة بشكل خبيث، بل وتغيير التركيبة الجينية للسكان بغرض السيطرة الاجتماعية والفكرية.
يتحدث المؤلف عن أهمية فهم أدوات وتقنيات الأجيال الجديدة في الحروب من أجل فهم الصراعات المعاصرة، مثل ما جرى في ما يسمى «الربيع العربي»، وما يجري في أوكرانيا. وربما يجدر بكريشنان إضافة فصل جديد عن الأجيال الجديدة في الحروب وحرب غزة، ليس فقط من منطلق الأطراف المتحاربة بشكل مباشر وصريح، ولكن من خلال الوكلاء، ووكلاء الوكلاء.
غاية القول إن الذكاء الاصطناعي يلعب فعلياً دوراً أساسياً في الحرب الدائرة حالياً في المنطقة العربية. قواعد الحرب تتغير أمام أعيننا، والذكاء الاصطناعي في القلب منها.
يتوقع لموازين القوى أن تتغير، والتهديدات الأمنية ستتخذ أشكالاً لم تخطر على بال، وكل ذلك يدفع دفعاً عمليات صنع القرار وتحديد الاستراتيجيات، وبالطبع الأولويات، لمواكبة الطور الجديد من أطوار الحروب.