في تحليل ما تمر به منطقتنا العربية من أزمات، لما لا يقل عن أربعة عقود ماضية، هناك كلام مسكوت عنه، وينبغي استحضاره، وهو: أنه ما لم يكن ولاء الإنسان لوطنه، فإن الحديث عن الاستقرار والتنمية والتقدم ليس له أي معنى. فلما يكون «البيت متوحد»، لن تخشى من الاختراقات الخارجية.

لخص لنا، منذ أسبوع تقريباً، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، معالي الدكتور أنور بن محمد قرقاش «استراتيجية بناء الوطن والحفاظ على سيادته»، في كلمات بسيطة، ولكنها تطابق كل النظريات الفلسفية والتجارب المعاشة.

وذلك على حسابه في منصة (X)، تويتر سابقاً، عندما قال تعليقاً على ما يحدث منذ أكتوبر 2023 إلى وقتنا الحاضر: «لا خيار لدينا إلا باستعادة مفهوم الدولة الوطنية، واحترام استقلالها وسيادتها».

التغريدة تحمل فكرتين تتسمان بالصراحة، وتمثلان الرافعة الحقيقية لكل الأوطان في مواكبة ما يحدث في باقي دول العالم. الفكرة الأولى: أن معاليه شخّص مسببات ما تمر به دولنا العربية من أزمات ومشاكل. والفكرة الثانية، معالجة تلك الأزمات، لبناء مستقبل الدول، ومشاركة الآخرين في رسم النظام الدولي القادم، فكل شيء الآن قابل للتشكل، لأن العالم يعيش حالة «سيولة سياسية»، ولكن بمجرد أن يستقر يصعب تغييره.

ففي تشخيص مسببات هذه الأزمات المتوالية، سماها معالي المستشار: «زمن الميليشيات»، وهو ما يعني أن هذه الميليشيات ترى ولاء الإنسان بشكل مختلف عما هو متعارف عليه وطبيعي لدى كل المجتمعات.

حيث ترفض فكرة الانتماء للوطن، والتعامل مع الوطن باعتباره خليطاً متنوعاً من الطوائف والمذاهب، ولكنه متناغم مع أن منطقتنا العربية تحتوي على دول فيها خليط من الأعراق والمعتقدات، فمثلاً: دول العراق ولبنان وحتى السودان، وغيرها من الدول العربية، كانت تعيش بسلام واستقرار وتفاهم، ولم تعانِ من أزمات، لأن «الوطن» هو المظلة التي تسع الجميع، وتظلهم بالقانون والعطاء المشترك.

أما عن الفكرة الثانية في تغريدة معالي الدكتور قرقاش، وهي: علاج تلك الأزمات، وبناء مستقبل المنطقة وازدهارها، فذكر معاليه أنها تحتاج إلى مشروع عربي مستقل، وأنها لا بد أن تكون هذه الدول متصالحة مع إقليمها.

فلو فحصنا هذه الكلمات، وأردنا أن نفسرها من الناحية السياسية، سنجد الآتي، أن الجميع في الإقليم لديهم مشروعاتهم التنموية والسياسية، والحال ينطبق على باقي دول العالم، فنحن نعيش لحظة تحول «تاريخي».

وبالتالي، فكل واحد يحاول أن يصنع له مكانة، بحيث لا يتفاجأ بما يخططه الآخرون له، المستثنى الوحيد من هذا التفكير الاستراتيجي في مشروعات العالم، هم العرب، بل المؤسف في الأمر، أن المنطقة العربية هي الساحة التي يتنافس عليها الجميع، أو أنهم «الساحة التي يلعبون فيها»، بفعل التفرقة الطائفية.

بل إن معاليه يطالب العرب أن يتصالحوا مع جوارهم، لأنه لا يمكن الحديث عن تنمية الإقليم دون التفاعل الإيجابي بين الجميع. وفي هذه العبارة اختزال فكرة أن «الولاء للوطن أولاً»، وليس للأفكار السياسية العابرة للحدود، والتي استُغلت من البعض، ودمرت الأوطان.

كما نرى الآن في غزة ولبنان واليمن، وقبلها في عدد من الدول العربية، ما زالت تعاني من تداعياتها، لأن وجود هذا الانتماء كفيل لأن يمثل سداً منيعاً، يردع كل من يحاول التفكير في اختراق الأوطان، ونشر الفوضى فيها، وبالتالي، فسوف يجبرهم هذا الولاء الوطني على احترام سيادة الدولة واستقلالها، بدلاً من أن تكون جسراً لمشروعات سياسية للآخرين.

الوحدة الثقافية العربية المتكاملة، والوحدة الجغرافية التي تربط، يفترض من شأنها أن تعزز من قوة العرب في مواجهة محاولات التدخل الخارجي، ومن شأنها أيضاً تقديم مشروع سياسي عالمي، لمشاركة الآخرين في تشكيل النظام العالمي القادم.

وللعلم، نجحت مجتمعاتنا العربية في فترة تاريخية من النهوض بأوطانها وتحريرها، عندما كانت كل مكونات الدولة الديموغرافية، تمثل «كياناً» واحداً، وكان الولاء للدولة الوطنية، وليس لحساب مشروعات سياسية لدول أخرى، التي تسببت في ما نراه اليوم، لذا، جاءت تغريدة معالي الدكتور قرقاش، لتمثل الضمير العربي للنهوض بـ «أوطاننا العربية».