Al Bayan

الناس وحقيقة المحبة

في فاتحة كل كتاب، يضع المؤلف إهداءً يختار له موقفاً أو شخصاً يكون عميق التأثير في نفسه، ويعبر من خلال هذا الإهداء عن قيمته الكبرى في وجدانه، وحين شرع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، بكتابة سيرته الذاتية «قصتي:

50 قصة في خمسين عاماً» كتب في صفحة الإهداء باقة من الكلمات التي تشع بالحب، وتتوهج بالوفاء، وتجسد أصالة الرؤية لدى هذا القائد الكبير الذي يحمل بين جوانحه قلباً فريداً طاف به على مناسك الوطن، ومنح أبناء شعبه رعاية كاملة وعاطفة صادقة جعلت منه رمزاً في سويداء قلوبهم، فعبر عن هذه العلاقة المتميزة في فاتحة كتابه بقوله:

«سيقولون بعد زمن طويل: هنا كانوا، هنا عملوا، هنا أنجزوا، هنا وُلدوا، وهنا تربّوا... هنا أحبّوا وأحبّهم الناس»، ليندفع صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد بعد هذا الإهداء الإنساني الرقيق في كتابة أروع قصص الحياة وأضخم المواقف والإنجازات في مسيرة الدولة وبناء الوطن.

والتي حين نتفحصها بعين البصيرة فلن نجد لها دافعاً إلا الحُب، وحين نبحث عن ثمرتها فسيكون الحب هو أشهى ثمارها، فالبشر مجبولون على حب من أحسن إليهم، وإن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد وعلى نهج والده المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، جعل معركته الكبرى هي بناء الوطن والارتقاء بالإنسان.

حيث الطريق إلى تحقيق ذلك كله هو عاطفة الحُبّ للوطن والإنسان، مصحوباً بالحكمة والحزم والعمل الصادق الدؤوب، وهو الذي نراه ماثلاً للعيان في مسيرة هذه الدولة التي وصلت إلى مرحلة من التقدم والرقي الحضاري الذي يشهد به القاصي والداني من الأمم والشعوب.

واسترجاعاً لهذه العاطفة الصادقة تجاه الناس الذين أحبّهم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وتحت وسم «علّمتني الحياة»، الذي ما زال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ينيره بكلماته العميقة التأثير، كتب تدوينة مفعمة بالحب والأصالة حول الإنجاز الأكبر للإنسان في هذه الحياة حين قال: «علّمتني الحياة أن أهم إنجاز في الحياة هو قدرتك على تغيير حياة الناس، تيسير حياة الناس، تطوير حياتهم نحو الأفضل، وخلق الفرص والمنافع لهم».

إنّ هذه التدوينة القصيرة المكثفة لا تسمح بتجزئتها، بل لا بد من استلهام روحها الكلية، وكيف أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ما زال حريصاً في المقام الأول على التواصل مع أبناء شعبه من محبي حكمته والحريصين على الاقتباس من أنوار خبرته، وأن سنوات العمر بالنسبة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هي تجسيد لتراكم الخبرات، وإصرار على إضاءة الطرقات.

ومن هنا جاءت هذه الإطلالة الثمينة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد من خلال هذا الوسم الدال على روح التواضع «علّمتني الحياة» ليقول لنا بلسان الحال، إن الإنسان مهما بلغ من المنازل العالية فإنه لا يزال يستلهم دروس الحياة، وهذا موقف بحد ذاته يدفع أبناء شعبه إلى مزيد من السعي نحو اكتساب الخبرات وتنمية القدرات وصقل المهارات.

فإذا كان البعض يرى أن أهم إنجاز في الحياة هو بسط السلطة والاستئثار بمكاسب الدنيا، فإن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد يعدل هذه النظرة القاصرة، ويؤكد أن أعظم إنجاز في الحياة هو ما كانت ثمرته نفع الإنسان، سواء كان في الوطن أم خارجه.

وأن الناس كل الناس هم محور اهتمام القائد الحقيقي المتسلح بالرؤية الأخلاقية في القيادة، فهو القائد الذي يفكر ويساعد غيره على التفكير، وهو الرائد الذي يدعو للريادة ويكون في مقدمة الصفوف، وهو الباني الذي يبني ويكون هدفه تحقيق المنفعة الشاملة لكل أبناء الوطن، فبهذا المنهج يتمكن القائد من تغيير نمط الحياة السائد بين الناس، فينقلهم من الإحساس السلبي بالذات إلى الإحساس الرائع بالحياة، ومن الشعور بالبلادة والترهل والكسل إلى الشعور المتدفق بالنشاط والعمل، ومن الشعور بالخوف إلى الشعور بالجرأة والإقدام.

ويكون هدفه الأكبر هو تيسير نمط الحياة بحيث يشعر المواطن أن دولته معنية بمشكلاته وحاجاته وظروفه، وتوفير أفضل الفرص التي توفر له حياة كريمة، فيزداد حباً لوطنه الذي يستحق كل الحب، وتندفع المسيرة نحو آفاق جديدة من التطور والإبداع بحيث يشعر الإنسان أنه فعلاً في قلب الحياة، لأن الروتين والجمود يقتلان الإحساس بقيمة الحياة، فإذا ترسخت هذه الثقافة في المجتمع كان ذلك هو الشكل الصحيح لمعادلة الحكم بين الدولة وأبناء الوطن.

ثم ختم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد هذه التدوينة الثمينة بحديث مستلهم من مشكاة المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلّم، أخرجه الإمام الطبراني في «المعجم الأوسط»، والإمام القُضاعي في «مسند الشهاب» حثّ فيه صلوات الله عليه وسلامه، على هذه المعاني السامية بقوله: «خير الناس أنفعهم للناس»، ليكون هذا الحديث قاعدة أخلاقية يستلهمها القادة وأصحاب الرأي في إرساء قواعد العدالة والنفع بين جميع فئات المجتمع، فتكون ثمرة ذلك ما ينتشر في المجتمع من حقائق الأمن والسكينة والاستقرار، لأن ثقافة النفع والمحبة هي صمام الأمان لكلّ مجتمع يسعى نحو الإسهام في مشهد الحياة على نحو يليق بحب الوطن وكرامة الإنسان.