الذين يتهمون دول الاعتدال العربية بالتخلي عن القضية، ويطالبونها في الوقت نفسه بالتدخل لإنقاذ الفلسطينيين واللبنانيين من الاعتداءات الإسرائيلية، واضح أنهم يعانون من انفصام الشخصية. فهؤلاء الذين يظهرون على شاشات القنوات الفضائية، أو في وسائط التواصل الاجتماعي، يهاجمون دول الاعتدال العربية، ويتهمونها بالخيانة والتخاذل، ثم يطلبون منها إرسال جيوشها للقتال والدفاع عن فلسطين ولبنان، يصدق عليهم تشبيه الكاتب المصري إبراهيم عيسى لهم بالممثلة الراحلة سعاد حسني، وهي تظهر مرة بشخصية ميرفت، ومرة بشخصية نادية، في الفيلم المصري «أين عقلي؟».

تناقض غريب لا يدل إلا على انفصام في شخصية هؤلاء الذين يهاجمون دول الاعتدال العربية، ويدعونها في الوقت نفسه إلى إرسال جيوشها للتدخل في حروب ليست مسؤولة عن إشعالها، في الوقت الذي تسعى فيه هذه الدول إلى إقرار السلام في المنطقة، وتبذل جهوداً كبيرة لتقديم العون للشعبين الفلسطيني واللبناني، ومساعدتهما على الخروج من الورطة التي أوقعتهما فيها الحركات والأحزاب والمحاور التي تدين بالولاء للخارج، وتخضع لأوامره وتوجيهاته.

حركة «حماس»، التي اتخذت قرار مهاجمة إسرائيل في السابع من شهر أكتوبر العام الماضي، لم تأخذ رأي دول الاعتدال العربية في هذا القرار، الذي كشفت الوثائق مؤخراً، أنها كانت تخطط له منذ أكثر من عامين، وتحاول إشراك إيران و«حزب الله» معها في تنفيذه، رغم أن قيادة حركة «حماس» السياسية المقيمة في العاصمة القطرية الدوحة، نفت علمها بهذا القرار.

كما نفته إيران، ونفاه «محور المقاومة»، الذي يتعرض الآن لأشد الضربات، ويفقد توازنه، بعد أن فقد أهم رموز قيادته السياسية والعسكرية، وأصبح مستقبله في مهب الريح، بينما قاعدته تتهاوى أمام ما يتعرض له سكان جنوب لبنان، وضاحية بيروت الجنوبية، وكل اللبنانيين، من قصف وتدمير وتهجير غير مسبوق.

دول الاعتدال العربية، التي يتهمها المصابون بانفصام الشخصية بالتخلي عن القضية الفلسطينية، هي أكثر من بذل جهوداً لحل القضية، ولكن بالطرق السلمية، وهي أول من بادر إلى تقديم المساعدات بمختلف أشكالها إلى أهل غزة، عندما تم تهجيرهم وهدم بيوتهم ومستشفياتهم ومدارسهم ومرافقهم الحيوية، وأصبحوا مشردين بلا مأوى في وطنهم، وهي أول من بادر إلى تقديم المساعدات إلى شعب لبنان، الذي أصبح هو الآخر مشرداً ومهجّراً في وطنه، بفعل المغامرات غير المحسوبة التي أقدم عليها «حزب الله»، مقدماً مصلحة الخارج، الذي يدين له بالولاء والولاية، على مصالح لبنان وأهله.

دول الاعتدال العربية، التي يتهمها المصابون بانفصام الشخصية بالخيانة والعمالة والتخاذل، لا تمن على أحد، ولا تنتظر شكراً من أحد، لكنها لم تعد تنخدع باللافتات التي يرفعها من يدعون الوطنية، وهم يرتمون في أحضان من يستغل قضاياهم لصالح أحلامه الإمبراطورية ومشاريعه التوسعية، ولا تؤمن بالشعارات الرنانة التي لا تجد لها صدى على الأرض، ولا ظلاً يقي المرددين لها، لهيب ما يتعرضون له من ضربات قاسية.

لقد تعلمت دول الاعتدال العربية من تجارب الماضي، ولم تعد مستعدة لتكرار ما حدث من أخطاء، وهي مخلصة لمبادئها. قال هذا صراحة سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الخارجية، عندما صرح بأن دولة الإمارات غير مستعدة لدعم اليوم التالي من الحرب في غزة، دون قيام دولة فلسطينية.

في إشارة واضحة إلى المبادئ الأساسية في سياسة دولة الإمارات الخارجية، المتمثلة في إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، والاتفاقيات ذات الصلة، القاضية بإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

دول الاعتدال العربية، تؤمن بأن الحروب والأزمات المفتعلة، لن تحقق للأمة العربية الأمن والازدهار الذي تنشده، وتدرك أن الأوان قد آن للاستماع إلى صوت العقل، لأن الأصوات الأخرى لم تجلب إلا القتل والتشريد وخراب الأوطان.

عام من «الطوفان»، لم يجلب على سكان غزة ولبنان إلا الدمار، وأخشى ما نخشاه، هو أن يؤدي «الطوفان» إلى «الغرق». صحيح أننا لا نتمنى أن يحدث هذا، لكن كل المؤشرات تقول إنه على وشك الحدوث، إن لم يكن قد حدث فعلاً، وعلى المصابين بانفصام الشخصية، أن يعالجوا أنفسهم، ويتخلوا عن شعاراتهم الرنانة الخادعة، كي يتخلصوا من متلازمة ميرفت ونادية.

كاتب وإعلامي إماراتي