بدا من الواضح أنّ الوضع في لبنان يشهد سيناريوهات دراماتيكية تذكّر إلى حدّ كبير بما جرى ويجري في قطاع غزّة والضفة الغربية، فقد عرف الميدان الأيّام الأخيرة تصعيداً خطيراً في العدوان الإسرائيلي على سيادة لبنان ووحدة أراضيه.

وتحت شعار «ضرورة القضاء على حزب الله»، لا يكاد القصف يتوقّف ليلاً ونهاراً، وعدد الضحايا من قتلى وجرحى بالآلاف بينهم عديد الأطفال والنساء، ويقدّر الملاحظون أنّ هذه الأرقام فاقت بشكل لافت أرقام حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله، ولم تسلم حتّى القوات الدولية «اليونيفيل» من الاعتداءات الإسرائيلية، ما أثار ردود فعل دولية مندّدة وشاجبة، وما دفع لبنان إلى تقديم شكوى أمام مجلس الأمن الدولي.

ولا يبدو أنّ هناك من بإمكانه كبح جماح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو ودفعه إلى وقف نزيف الهجوم، سواء كان ذلك في غزّة أو في لبنان، وتشير كلّ هذه التطورات والمعطيات إلى بلوغ المنطقة مرحلة الخطر، وبأنّ إسرائيل وحدها تسعى إلى خلق الشروط الموضوعية لفوضى إقليمية قد تفلت عن كلّ سيطرة.

من الواضح إذاً أنّ سياسة بنيامين نتانياهو تدفع المنطقة إلى «مآل ومستقبل غريب» بحسب ما جاء في تقرير لصحيفة «الإنسانية» (Humanité) الفرنسية التي أكّدت أنّ نتانياهو «لم يكن يوماً أكثر ثقة بنفسه مثل اليوم، وهي ثقة تعزّزت بفعل الصمت الدولي، وتشير الصحيفة إلى أنّه «عندما طلب منه الرئيس الفرنسي، بخجل، أن يهدأ، ردّ نتانياهو، الذي لا يمكن الإطاحة به، والمدعوم من اليمين المتطرف، بأنّ الضغوط يجب أن تمارس على حزب الله».

إنّه ما من شكّ إذاً في أنّ المنطق الحربي والعدواني الذي تنغلق فيه إسرائيل مميت ومدمّر لمستقبل المنطقة واستقرارها، ولم يعد هناك أيّ وهم بأنّ أيّ قوّة في العالم قادرة على تغيير ذلك.

وإيماناً منه بأنّ الحروب السابقة لم تحسم الأمور، يبدو أنّ نتانياهو مقرّ العزم على الذهاب بعيداً هذه المرّة بقطع النظر عن تداعيات ذلك على دول وشعوب المنطقة، وهذا العزم يجد في الضعف الأمريكي والصمت الدولي سنداً إضافياً.

واعتبر العالم الجيوسياسي الفرنسي دومينيك موييزي «أنّه منذ أن أصبحت ( الولايات المتحدة ) أكبر حماة الدولة العبرية لم يسبق لها وأن ظهرت ضعيفة أمام إسرائيل مثلما هو الحال، والوضع ذاته بالنسبة للحزب الديمقراطي قبيل أقل من شهر عن موعد الانتخابات الرئاسية».

معتبراً أنّ بنيامين نتانياهو «من خلال توسيع نطاق الحرب إلى لبنان لا يبحث فقط على البقاء لمدّة أطول في الحكم، بل أيضاً يسعى إلى إيصال دونالد ترامب إلى البيت الأبيض».

ومضيفاً أنّه «رغم تبنّي الولايات المتحدة لاستراتيجية تجنّبها الوقوع مرّة أخرى في مطبّات منطقة الشرق الأوسط، إلّا أنّها لم تنجح في ذلك»، وقد استطاع نتانياهو مقابل ذلك وضع الرئيس الأمريكي جو بايدن في وضع حرج ومعقّد ليقينه التام بأنّ بايدن لا يمكنه بحال الاعتراض على سياساته ومخططاته في المنطقة خوفاً من تأثير ذلك على حظوظ المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في انتخابات الرئاسة الأمريكية.

وقد أدّت صعوبة الضغط على حكومة بنيامين نتانياهو واستحالتها في بعض الأحيان إلى سعيه لفرض أهدافه القصوى مروراً بضربه عرض الحائط بكلّ الخطوط الحمر.

رئيس حكومة دولة الاحتلال الاسرائيلي أعلنها صراحة بأنّ «الوقت قد حان لإحداث تغييرات استراتيجية في المنطقة»، وهو يقدّر أنّ موازين القوى على الأرض تسمح بذلك الآن، وهو ما يعني أوّلاً، نسف كلّ التفاهمات والاتفاقيات السابقة، ومن ذلك اتفاقيات السلام المبرمة واعتبار كلّ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة متقادمة ولاغية.

وثانياً، توسيع «المجال الحيوي» لدولة إسرائيل بحيث تتواصل عملية إفراغ قطاع غزّة من سكّانه بالتقتيل أو بالتجويع أو بالتهجير القسري وتأمين شمال الدولة العبرية بجبر اللبنانيين على التراجع إلى مسافات وراء الخطّ الأزرق الذي وضعه قرار مجلس الأمن عدد 1701 لسنة 2006.

واعتبار هذا القرار لا يفي بحاجة إسرائيل الآن، وثالثاً، القضاء المبرم على كلّ أشكال المقاومة، وهو هدف أضحى ممكناً بحسب الملاحظين لعدم قدرة هذه المقاومة عملياً على فكّ الارتباط مع مصالح دولة إقليمية أخرى لها أجندتها الخاصّة فيما يبدو، ورابعاً، الانصراف لتصفية الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية.

أهداف نتانياهو واضحة، ولكنّها تصطدم بعوائق أساسية، إرادة الشعوب التي لا تقهر وصبر البشرية الذي بدأ ينفد، وعدم استعداد دول المنطقة الدخول في ما يهدّد مصالحها الوطنية.



كاتب تونسي