بينما أمارس طقساً يومياً ونشاطاً بات إجبارياً، يتمثل في محاولة فك طلاسم ما يجري في المنطقة، وعمل بعض الحسابات علّها تنجح في وضع القليل من النقاط المنطقية على الحروف والحروب غير المنطقية، قرأت تغريدة، ثم ظهر مقطع فيديو. حدث ذلك بمحض الصدفة، لكن كليهما جاء في الوقت المناسب تماماً.
الفيديو مقطع من إطلاق مشروع رأس الحكمة التنموي في مصر. مشروع عملاق يجمع دولتي الإمارات ومصر الشقيقتين، ويحمل في طياته أهمية اقتصادية كبرى وفرصاً استثمارية وعقارية وسياحية وبيئية ذهبية، وخدمات متكاملة وفرصاً تنموية أقل ما يمكن أن توصف بها هو أنها «غير مسبوقة».
عقود طويلة ونحن ندرس ونكتب ونتكلم عن أهمية التعاون العربي المشترك. الأجيال الأصغر سناً تسمع ذلك، وربما تقرأ عنه، وتدرسه في المدارس، لكن بينها من يبحث عن ترجمات ملموسة لوحدة الثقافة واللغة والجغرافيا.
إنها الأجيال المغموسة في مشكلاتها، ورحلات البحث عن فرص التعليم والعمل والترقي والترفيه، في زمن بالغ الصعوبة. إنها الأجيال الباحثة عن مشروعات وأفكار يشعرون بها وبآثارها في تفاصيل حياتهم اليومية.
فرصة عمل، توسع عمراني، محفزات لزيادة الإنتاج، مكان جديد للعمل والسكن، مزيد من الاستثمار في الإنسان، والقوس مفتوح.
مشروع «رأس الحكمة» يحمل هذه الملامح. وتوقيت تدشينه، وحرص الدولتين الشقيقتين على أن يشهدا إطلاق المشروع يقول الكثير عن العمل العربي المشترك في حقبة سياسية وأمنية هي الأصعب في تاريخ المنطقة المعاصر.
أما التغريدة، فهي لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، والذي كتب في مناسبة ذكرى وفاة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله: «ما زلنا نستلهم دروسه، وما زلنا نتفكر في حياته وأعماله ومنهج حكمه. كانت حياته عملاً دائماً، وكانت راحته لحظات فكر وتدبير. كانت جلساته جلسات حكم وبناء. ابتعد عن معارك السياسة الصفرية، وركز وقته وجهده وفكره في الاقتصاد والتنمية».
توقفت كثيراً عند عبارة «ابتعد عن معارك السياسة الصفرية»، وربطت بينها وبين مجريات المنطقة غير المنطقية، وكذلك بينها وبين أولويات شعوب المنطقة الحائرة بين الخيال والواقع، وأيضاً بينها وبين ما يحاول البعض، ولو بحسن نية، أو عدم قدرة على رؤية ما هو أبعد «تحت القدمين»، أن يفرضه على الشعوب فرضاً.
الحروب بالوكالة، المعارك غير المحسوبة، الخلط بين الخيال والواقع، مواجهات الاستنزاف لا الحسم، الاقتتال الداخلي، الاحتراب الإقليمي، دغدغة المشاعر، إحماء العواطف، إشعال النعرات الطائفية، الانغماس في الخرافة، خلق واقع افتراضي يطغى على الواقعي وقائمة الحروب الصفرية التي أشار إليها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، نقلاً عن المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد رحمه الله، هي يحيط بنا، و«الشاطر» من لا يقع فيها، والأشطر من يقي نفسه شرورها.
اعتقد خبراء ومراقبون أن منطقتنا حصلت على نصيبها وأكثر من الحروب الصفرية. فحتى سنوات قليلة مضت، كانت منطقة الشرق الأوسط قد خاضت بالفعل عشرات الاقتتالات الفرعية والداخلية، ولا نتطرق إلى الحروب الكبرى، حروب تقرير المصير، واستعادة الحقوق لضمان البناء من منطلق القوة. ونذكر على سبيل المثال حرب أكتوبر 1973، والتي شهدت التفافاً عربياً سيبقى محفوراً في الأذهان.
يبدو أن هناك من يصر على الدفع بالشعوب العربية في دوامة جديدة من الاستنزاف، والإبقاء عليهم فيها. فرق كبير بين استعادة الحقوق وخسارة المزيد منها، وشتان بين التخطيط من أجل النصر، وبين إلقاء الآخرين، وربما النفس، في التهلكة أملاً في النصر.
غاية القول إن المعارك الصفرية تطل برأسها من جديد، ولكن هناك من هم قادرون على التمييز بين المنطق والخيال، والتعقل والجنون، والخروج من الدوامة والبقاء فيها، وذلك دون التخلي عن الدور الوطني، والواجب القومي، والقدرة على ترجمة العمل المشترك لمعانٍ تدخل كل بيت عربي.