بدعوة كريمة من الأمانة العامة لتحالف مراكز الفكر والثقافة العربية، وبرعاية من جهات أخرى، حضرت ندوة مهمة الأسبوع المنصرم حول الهوية الوطنية، حضرها كبار المسؤولين، وعلى رأسهم معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش، ولفيف من المفكرين والدارسين والباحثين.
بالإضافة إلى كلمة الافتتاحية لراعي الندوة، الشيخ نهيان، ورعاة الندوة الآخرين، عقدت ثلاث جلسات للندوة، تناولت ثلاثة عناوين عريضة. لا يسع المجال إلى استعراض ما دار في الندوة، وقد تناول الإعلام هنا في الإمارات، حيث عقدت الندوة في أبوظبي، تغطية النقاشات لمن أراد الاطلاع على مداولاتها الثرية.
ما استوقفني، هو سؤال الهوية العريض، وهو شغل الشاغل لكثير من المفكرين وعلماء الاجتماع، وكذلك المؤرخين لهذا الموضوع. من أنا ومن نحن؟ سؤال مهم في منطقة تتقاطع فيها الهويات ما دون الدولة وما فوقها.
هناك هويات عابرة للحدود، وهناك هويات أصغر من الحدود. ففي بلد مثل لبنان المكلوم، هويات عديدة، طائفية وعقائدية. هويات موروثة من قديم الزمن، وبعضها مصطنعة حديثة. قليل من الناس يعرف أن لبنان شهد حرباً أهلية في القرن التاسع عشر، وأن الحرب الأهلية التي شهدها لبنان بعد 1975، لم تكن الأولى، حيث شهد هذا البلد انقساماً طائفياً في 1958، ولولا حكمة البعض، لانزلق حينها إلى حرب أهلية.
تتنازع الهويات في أوطان تشكلت كموروث كولونيالي، لم يراعِ أي اعتبارات غير مصالحه الآنية والقصيرة، وورث العباد بلاداً غير متجانسة وغير متكاملة. بل إنه عارض تحقيق حد أدني من التكامل والتجانس.
يعتقد البعض أن تعزيز الهوية الوطنية يتحقق بتعزيز الموروث الثقافي، وأن التاريخ يعزز الهوية الوطنية. لكن المنطقة عرفت تاريخاً مختلفاً، وموروثاً قد يعزز الهوية العابرة للحدود أو ما دونه. الهوية الإسلامية والعربية تكاملت مع الهويات الوطنية أحياناً، وتصارعت معها، كما حصل في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
وبعد ذلك، وبدءاً من السبعينيات، برزت الهوية الإسلامية بطورها السياسي، والتي حاولت تقويض المشروع الوطني، الذي برز كبديل للمشاريع العابرة للحدود. وكانت تجليات المشروعين حرباً ضروساً في بداية الثمانينيات وحتى آخرها.
ولم تقف عند ذلك الحد، حتى نشبت حرب أخرى، على غرار الأولى، حين احتل العراق الكويت، بدعوى الوطن الواحد، واستنهاض الهوية العربية الشاملة. ولعلها كانت آخر صرخات تلك الهوية، والتي أدى لها صدام طعنة نجلاء، لم نفق منها حتى الآن.
الهوية مرتبطة باللغة، واللغة هي الوعاء، بل هي الدم الذي يجري في شريان أية أمة. تشكلت الأمم الأوروبية، بعد أن اتخذت لغاتها الدارجة كلغة لآدابها وكتابتها، فأصبحت الإيطالية هي اللغة التي كتب دانتي بها الكوميديا الإلهية، وعاف اللاتينية في القرن الرابع عشر.
وكذلك الأديب الأريب ميغيل دي ثيربانتس، وروايته الشهيرة دون كيخوتي، والتي أسست للغة الإسبانية الحديثة في القرن السابع عشر. بل إن الكثير يعتبر الشاعر والكاتب والمسرحي الإنجليزي وليام شكسبير، الأب الفعلي للغة الإنجليزية الحديثة.
الأدباء العرب، اختطوا لأنفسهم منهجاً مغايراً. رغم إصرار الأديب الراحل طه حسين على الانتماء الثقافي والحضاري إلى المتوسطية في المستقبل الثقافي لمصر، إلا أن إصراره على الفصحى، لا يقل التزاماً في برنامجه الإذاعي الشهير «حديث الأربعاء».
وكذلك الحال للشعراء والكتاب العرب، مثل نجيب محفوظ في رائعته الثلاثية، ونزار قباني ومحمود درويش والرصافي والجواهري، في أشعارهم، لم يختاروا إلا العربية الفصحى. والحال نفسه عند المفكرين العرب الكبار، مثل عابد الجابري وعبد الله العروي، وعبد الله الغذامي، ورضوان السيد، أبو يعرب المرزوقي، وعبد الله ولد آباه وآخرين كثر، يكتبون بالعربية الفصحى. وإعلامنا العربي ومناهجنا المدرسية، تكرس الفصحى كلغة للعلم والأدب.
كيف يتم المحافظة على الهوية الوطنية، والتي يجري فيها مجرى الدم، هوية عابرة للحدود؟. الحل لا يكمن بالطبع في التحول إلى العامية، كما حصل في أوروبا، بل بطريقة مختلفة، بتعزيز الهوية الوطنية للدولة.
حيث يكون أهدافها الاستراتيجية خادمة للوطن لا غيره، ولكنها تراعي وتعيد التوازن للهوية الشاملة للمجتمعات المسلمة والعربية، حتى لا تتغول الهوية الوطنية على الهوية الجامعة، ولا تترك الهوية الجامعة تتغول على هوية الدولة الوطنية ومصالحها العليا. بذلك تصبح الدولة الوطنية الحكم، وتتحقق الدولة الوطنية في المجتمعات العربية المسلمة.
كاتب وأكاديمي