في 17 فبراير 2024، خسرت البحرين، بوفاة الوجيه محمد عبدالله المناعي، رجلاً من رجالاتها الأبرار، ممن شهد لهم المجتمع بسائر تلاوينه وأطيافه بحسه الوطني، وكرمه الفياض، ونبوغه التجاري، وسيرته العطرة، وسعيه المتواصل منذ نعومة أظفاره للنجاح والتميز.
وللمناعي، حكاية جميلة، يجب أن تروى للأجيال الجديدة، التي لم تعاصر حقبة الغوص على اللؤلؤ، وزمن ما قبل اكتشاف النفط وتصديره. والحقيقة أن بروز الرجل في دنيا المال والأعمال والاستثمارات والمشاريع، لم يكن غريباً لمن كان مثله منتمياً إلى عائلة «المناعي»، التي هي من الأسر المعروفة في المنطقة منذ القدم، بل من الأسر التي لها ذكر متكرر في تاريخ البحرين وقطر تحديداً.
فالمنانعة (ومفردها مناعي)، تعود جذورهم إلى فخذ بني كعب، أحد فخوذ بني تميم بمنطقة الحوطة في نجد، ومنها هاجروا وانتشروا في البحرين وقطر والإمارات، ومناطق عدة من السعودية، ممارسين الغوص على اللؤلؤ، وقيادة السفن وتجارة الذهب والمواد الغذائية، حيث برز منهم الكثير من الأعلام، لا سيما في عالم التجارة والمال، وفي ميادين الشعر والأدب والفنون والصحافة والقضاء والأمور الشرعية والتدريس.
وقد عرفوا منذ القدم بالوجاهة والشجاعة والعلم والكرم والولاء المطلق لأوطانهم الخليجية وولاة الأمر، بل لعب بعضهم أدواراً تاريخية حاسمة، إلى جانب العتوب دفاعاً عن أوطانهم.
ومن هؤلاء الشيخ سالم بن درويش آل بن عجمي المناعي (ت: 1873)، مؤسس قرية قلالي في أربعينيات القرن 19، وسميت بهذا الاسم، لأن مؤسسها كان يحارب أعداءه بالقلالي، بحسب أحد المصادر.
وتمتع الشيخ سالم بن درويش بمكانة سياسية لدى حاكم البحرين وتوابعها، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة (1848 ــ 1932)، وكانت بينه وبين المقيم السياسي البريطاني في الخليج ووكيل المقيمية في بوشهر بعض المراسلات، وخاض معارك حربية إلى جانب الشيخين علي بن خليفة آل خليفة، ومحمد بن خليفة آل خليفة.
كما أن ابنه الشيخ محمد من الشخصيات الهامة ذات الذكر في تاريخ البحرين، حيث خلف والده في رئاسة المنانعة بالبحرين، وكان من المشاركين في معركة «دامسة» سنة 1867، ومعركة «الدولاب» سنة 1853، للدفاع عن البحرين وحمايتها من الأعداء.
وقد أتى على ذكرهم قبل مئة سنة، المؤرخ والمستشرق الإنجليزي «جون لوريمر» (1870 ــ 1914)، في القسم الجغرافي من كتابه «دليل الخليج»، فقال: «المنانعة مفردها مناعي، وهي قبيلة عربية، ليست بدوية، تتكون من غواصي وتجار اللؤلؤ في البحرين وقطر، ولهم مئة منزل في البحرين في قلالي، وعشرة منازل بمدينة المحرق، وعشرة منازل في الحد، ولهم عشرة منازل في الدوحة، و70 منزلاً في أبو الظلوف (على الساحل الشمالي لقطر). وهم من المسلمين السنة على مذهب الإمام مالك».
ولد محمد بن عبد الله بن عيسى المناعي بقرية «قلالي» سنة 1935، ابناً لعائلة كانت تمارس وقتذاك، كغيرها من العائلات، تجارة اللؤلؤ والطواشة، فتربى منذ صغره على حب اللؤلؤ والمجوهرات، وما يتعلق بها من حكايات الغوص والبحر، والمراكب التجارية العابرة للمحيطات، ونقوش اللآلئ وتصاميمها، وطرق فرزها وفحصها ووزنها، وأساليب تصديرها إلى الهند، وبيعها هناك في سوق «موتي بازار» الكبير للؤلؤ بمدينة «بمباي».
في الوقت نفسه، ساقته الأقدار أيضاً، باعتباره الابن الأكبر لأبيه، إلى تحمل مسؤولية أسرته المكونة من والدته وثمانية من الأخوة، لجهة إدارة ميزانيتها، والإنفاق على احتياجاتها، وهو لم يزل طفلاً، خلال غياب والده الطواش في البحر، أو أثناء رحلاته التجارية إلى الهند، التي كانت تمتد لنحو أربعة أشهر كل عام.
وهكذا تعلم الطفل الاعتماد على النفس، وجُبل على تحمل المسؤولية، وعرف كيف يتدبر الأمور بالصبر والحكمة والمرونة، خصوصاً أنه عاصر فترات وظروفاً صعبة في تلك الأيام، بسبب تأخر عودة مراكب الغاصة والطواويش، جراء عواصف المحيط الخطرة، ناهيك عن تعرضها في الكثير من الأحايين لسطو القراصنة، وهي في عرض البحر.
يقول المناعي في هذا السياق، طبقاً لمقابلة أجرتها معه مجلة «101» السياحية، إنه عندما كان في السابعة من عمره، كان عاملان أساسيان يخيفان السفن والبحارة وتجار اللؤلؤ، وهما العواصف القوية، وتهديد القراصنة. ويضيف أنه بعمر الحادية عشرة، استطاع إدارة الميزانية والصرف لعائلته في غياب والده. وأنه بعمر الخامسة عشرة، كان قد خط دربه في أول خطواته كمصمم للمجوهرات في البحرين.
والجزئية الأخيرة تقودنا إلى حكاية تخصصه وبروزه في مجال صياغة الذهب، وتصميم المجوهرات والهدايا النفيسة، والذي لازمه إلى نهاية حياته، رغم تشعب تجارته واستثماراته إلى مجالات أخرى كثيرة.
كما أسلفنا، ولد صاحبنا في قرية «قلالي»، الواقعة على ساحل البحر إلى الشمال والشمال الغربي من مدينة المحرق، ولأن القرية عرفت منذ القدم بالمحار واللؤلؤ، فقد تعلق بهما منذ الصغر، خصوصاً أنه كان ملازماً لوالده وجده المشتغلين في الطواشة وتجارة اللؤلؤ.
ومن هذه التجارة، كونت عائلته ثروة، وأسست اسمها التجاري في حدود سنة 1824 م. غير أن لتجارة العائلة عمقاً تاريخياً أبعد. فهي بدأت، قبل ذلك بعقود، على يد الجيل الأول من العائلة، من خلال شحن التمور من مزارعها في الأحساء، وتسويقها في شبه القارة الهندية.
مع مرور الزمن، أصبح المناعي خبيراً في اللآلئ، وصار يتقن فنون التفريق بين اللؤلؤ البحريني وغيره. فهو القائل: «إن لؤلؤ البحرين يمتاز بنقاوته وجماله ولمعانه عن باقي اللؤلؤ في العالم»، مضيفاً: «ويعود سر هذا الجمال للؤلؤ البحريني، إلى سبب بسيط، هو أن أمواج البحر في شواطئ البحرين، أكثر هدوءاً وأقل ارتفاعاً عن باقي منطقة الخليج، ما يجعل نمو المحار أكثر اتساقاً وتطوراً، وأكثر لمعاناً وأكثر كثافة، وأكثر سمكاً عن باقي اللؤلؤ في منطقة الخليج والعالم».
لكن ماذا عن مشواره الدراسي؟
أخبرنا المناعي بنفسه في حديثه لمجلة 101 السياحية، أنه تلقى تعليمه الأولي في كتاتيب المحرق، كغيره من أقرانه، ثم التحق بمدرسة الهداية الخليفية (أولى مدارس البحرين النظامية التي افتتحت في عام 1919)، وأضاف أنه كان يتلقى العلم في هذه المدرسة، وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي تعطلت إبانها حركة الاستيراد والتصدير.
وتذكر في هذا السياق أنه اضطر وقتذاك للذهاب إلى مدرسته سيراً على الأقدام (مسافة 9.5 كيلومترات)، لأن سيارة العائلة تعطلت بسبب انقطاع واردات قطع الغيار من أوروبا.
في تلك السنوات، لاحظ والده أن ولده الأكبر محمد (المترجم له)، صاحب شغف كبير باللؤلؤ، ولديه ملكة تصميم الحلي الذهبية، فقرر إرساله إلى مصيف بونا الهندي، القريب من مدينة بمباي، من أجل أن يصقل مواهبه، ويتعلم المهنة بحرفية في أحد مصانع الذهب هناك.
وبالفعل، سافر المناعي بحراً إلى الهند عام 1947، وانخرط هناك بجد واجتهاد في الدراسة المقترنة بالعمل التطبيقي لمدة عشر ساعات يومياً، على مدى عامين متواصلين، وسط معلمين وطلبة وصاغة هنود، الأمر الذي أثمر عن تحوله إلى صائغ ماهر، ومصمم بارع، بل دخل تاريخ بلاده كأول مواطن يتعلم صياغة الذهب وتصميمه، وينال في هذا المجال شهادة احترافية.
وأثناء وجوده في الهند، التي سبقه إليها والده وجده، تعرف إلى مظاهر التمدن والتحضر في الهند البريطانية، ورأى لأول مرة في حياته الترام والمصعد الكهربائي والهواتف والشوارع المبلطة، والأسواق المكتظة بالبشر والبضائع الغريبة، وفرجان المقيمين العرب ومقاهيهم ومكاتبهم، ومنزل والده في شارع نجديفي، الموازي لشارع «محمد علي رود»، والذي تلقى فيه دروساً في مسك الدفاتر والمحاسبة، على يد مدرس خاص، إضافة إلى دروس في العربية والإنجليزية والعلوم الحديثة، كان يتلقاها مع أبناء التجار الخليجيين من أصدقاء والده، مثل أبناء الشايع من الكويت، وأولاد القاضي والبسام من السعودية، وأبناء الدوي من البحرين.
بعد عودته إلى البحرين، أراد الالتحاق بتجارة والده، لكن الأخير كان له رأي آخر، هو أن يبدأ حياته العملية بالعمل لدى مؤسسة تجارية أخرى، كي يكتسب مهارات التعامل مع الناس، وفنون الإدارة وقيادة المشاريع. وهكذا، رحل المناعي إلى مدينة الخبر، وهو في الثامنة عشرة من عمره، ليعمل هناك لدى فرع مؤسسة الزياني التجارية، وكلاء سيارات لاندروفر الإنجليزية وقتذاك.
وحول هذا المنعطف في حياته، قال: «وبسبب مهارتي الإدارية، والعمل الجاد الصبور، تمت ترقيتي إلى مدير المعارض بالشركة، خلال أربعة أشهر فقط، وهي فرصة سانحة لي كيف أدير العمل لأشقّ طريقي في الحياة. لقد كانت تلك التجربة قيمة بالنسبة لي، وعلمتني الكثير، قبل عودتي إلى صميم عملي في تصميم المجوهرات».
في عام 1952، وبعد عودته من السعودية، انضم إلى مجموعة والده التجارية بفخر وسعادة، وعمل جاهداً من أجل تأسيس قسم خاص داخل المجموعة باسم «قسم تصميم وصناعة المجوهرات». بدأ هذا القسم الجديد يلمع كلمعان معادنه النفيسة، ويشتهر، ويؤسس لنفسه موقعاً فريداً في عالم تجارة الذهب وتصاميمه، إلى درجة أن الجيش البريطاني المرابط آنذاك في قاعدة الجفير بالمنامة، قرر أن يعتمده في الستينيات كصائغ رسمي لضباطه وجنوده وعائلاتهم.
ومع مرور الأيام، راح القسم يوسع أنشطته، ويضيف إليها ابتكارات جديدة، حتى أصبح مزوداً لحكومة البحرين، وللعائلة الحاكمة الكريمة، بالهدايا النفيسة من مجوهرات وقلائد وأوسمة وسيوف مذهبة ومرصعة باللآلئ والأحجار الكريمة، والنقوش المبتكرة من تلك التي عادة ما تقدمها الدول لضيوفها الرسميين، أو للمبدعين والمتميزين من أبنائها في المناسبات الوطنية والسعيدة.
لم يحصر المناعي جهوده في هذا النشاط فحسب، وإنما تسلم إدارة مجموعة المناعي التجارية من والده، وراح يطورها في اتجاهات مختلفة، شملت قطاعات المصارف والتأمين والسيارات والأغذية وتجهيزات المكاتب وصناعة الألمنيوم والزجاج، ما جعله وجهاً تجارياً لامعاً، ذا سمعة محمودة في مجتمع المال والأعمال.
وبهذه الصفة، ساهم في إعداد وتطوير القانون التجاري البحريني، وخدم مجتمع الغواصين لجهة حل مشاكلهم مع التجار، ولعب دوراً في تأسيس «جمعية الذهب والمجوهرات» البحرينية، وترأسها لفترة، وقت إنشائها عام 1975.
إلى ذلك ساهم في تأسيس «جمعية التخطيط الأسري»، التي انتخبته رئيساً لها مدى الحياة، باعتباره نموذجاً للمواطن الذي عرف كيف يوفق بين حياته المزدحمة بالأعمال والمشاريع التجارية والرحلات الخارجية، وبين الاعتناء بأسرته وتربية أبنائه وتوجيههم وتعليمهم.
تعددت مشاغل المناعي وتشعبت، فأصبح عضواً مؤسساً في مجالس إدارات الكيانات التالية: «البنك الأهلي» و«شركة دلمون للدواجن»، و«شركة التأمين الأهلية»، و«شركة ترافكو» للأغذية، و«شركة الخليج للاستثمارات العربية» بمصر. كما تولى الرجل رئاسة مجلس إدارة شركة «ردماك» للخدمات الصناعية، منذ تأسيسها عام 1975 وحتى وفاته، ورئاسة مجلس إدارة المؤسسة العربية المصرفية في الأردن، وعضوية مجلس إدارة المؤسسة ذاتها في البحرين.
إلى ذلك، نال المناعي عضوية أكثر من 20 لجنة وكياناً داخل البحرين وخارجها، ومنها عضوية «مجلس التجارة والغوص»، التابع لمحاكم البحرين، في الفترة من 1956 إلى 1968، و«مجلس البلدية المركزية في البحرين» عام 1974، و«جمعية البحرين الخيرية» عام 1979، و«جمعية الشرق الأوسط لرجال الأعمال» في لندن، و«جمعية علم الأحجار» البريطانية سنة 1977، و«مركز التحكيم لدول مجلس التعاون الخليجي»، في الفترة من 2013 إلى 2017، و«مجلس إدارة الطفل» في البحرين، بين عامي 1978 إلى 1996، و«لجنة الطوارئ للمساعدات الإنسانية» لحكومة البحرين، و«اللجنة الوطنية لمراقبة الأسعار» بوزارة التجارة والصناعة البحرينية، و«لجنة مختبر اللؤلؤ والأحجار الكريمة» في البحرين، و«المجلس التشاوري لغرفة تجارة وصناعة البحرين» في عام 2018.
في عام 1990، سمته الدولة عضواً في مجلس الشورى، ليدخل عالم التشريع لأول مرة، ويبقى فيه حتى عام 1998. وقبل وفاته، رحمه الله، كان قد حصل على وسام صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة من الدرجة الثانية، من لدن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة المعظم، ووسام الكفاءة من الدرجة الأولى من يد جلالته، وشهادة الدكتوراه الفخرية في مزاولة تجارة اللؤلؤ، من أكاديمية أكسفورد البريطانية.