يروى أن جحا جمع الناس وهو ينادي فيهم، فلما التفت من حوله الحشود صاح قائلاً: «هل تعرفون ماذا أريد أن أقول لكم؟»، تصايح الناس: لا ! حينها عبث بلحيته قليلاً ثم قال: «ما دمتم لا تعرفون، فلا فائدة أن أتحدث لمن لا يعرف»، ثم رحل عنهم، بعد أيام نادى فيهم، ليجتمعوا من جديد، ثم سألهم ذات السؤال فأجابوه هذه المرة بـ«نعم» حتى يقطعوا عليه الحجة السابقة، فعبث من جديد بلحيته ثم قال: «ما دمتم تعرفون، فلا فائدة من تكرار ما تعرفون أصلاً»، ثم رحل وقد استبدّ بهم الغضب، لذا عندما ناداهم في المرة التالية حاولوا اغلاق طريق الحُجَج عليه، فبعضهم أجاب بنعم، وبعضهم أجاب بلا، هذه المرة عبث جحا طويلاً بلحيته قبل أن يقول لهم بلسان ماكر: «مادام الأمر كذلك، فمن يعلم يخبر من لا يعلم»، ثم رحل!

أشد ما يزعج الإنسان تذاكي متفلسف في غير أوانه مما يضيع معه الوقت الثمين، ويكون أكثر سوءاً عندما يوجه ذاك التذاكي لنشر السلبية والإحباط في النفوس، باختلاق مشاكل غير موجودة، والتشغيب لصرف النظر عن حجم ومكان المشكلة التي تحتاج للحل، إما بسوء نية، وإما بنية لا أقول حسنة، ولكنها تحاول ادعاء العبقرية، وسبق الآخرين في رؤية مالا يرون!

يخرج علينا سلبي مُتذاكٍ ليقول: إن المسلمين لا يعرفون التفكير بالمستقبل، لذلك هم يتباكون على الماضي الذي كانوا فيها سادة الدنيا، ثم يطرح سؤالاً يتصنع فيه الإتيان بما لم يأتِ به السابقون وهو يقول: «هل رأيتم العرب والمسلمين قد أنتجوا فيلماً عن الخيال العلمي مثل حرب النجوم، لا بالطبع، لأنهم لا يعرفون التفكير بالمستقبل»، ويعلو له تصفيق جمهور، الله وحده يعلم من أي مستوى فكري هو. إن من يريد اختزال أزمة العرب والمسلمين في قضية مسلسل مستقبلي لا يجدر به أن يُنظِّر ويتهكم، فمن لا يعرف المشكلة تحديداً لن يستطيع حلها، فالأحول يرى الطريق الواحد طريقين، والباحث عن التصفيق ليس كالباحث عن الحلول، ومن يكتفي بقشور المسببات ليس كمن يجتهد ببحثه عن جذور الأسباب.

فيما يتعلق بحرب النجوم فإن جورج لوكاس أخرج أول جزء عام 1977، تقريباً قبل نصف قرن من الزمن، فهل رأينا مركبات الفضاء التي تخترق الكون، وتحمل البشر بين المجرات بسرعة خاطفة؟ هي صناعة سينما، وتقنيات ووفرة كتّاب مبدعين، فحتى في الشق التاريخي لم نستطع إنتاج أشياء مشابهة لـ Gladiator أو Brave Heart، فهل يعني هذا أننا فاشلون حتى في العودة للماضي!

إن مشكلتنا الكبرى هي أننا منذ خرجنا من الحياة القائمة على العلم والدين «الداعم له» أضعنا الطريق. كانت ثمة مدارس مثلت وجهة الدنيا في العالم الإسلامي، ومكتبات كبيرة بلغت إحداها وهي مكتبة أنطاكية قرابة ثلاثة ملايين كتاب. هذا يدل على فورة العلوم، ووفرة الإنتاج الكتابي في تلك الميادين والتي سرقها الصليبيون، وأحرقوا قسم المصاحف بالكامل. كانت ثمة مساجد كادت كل سارية أن يستند إليها عالم ينثر النور، الذي تنزل به الوحي في توازن بديع بين بناء الإنسان وبناء محيطه. منذ ذلك الوقت ونحن نتخبط خبط عشواء، ويبحث بعضنا عن طريق مختصر فلا يجد، ويسعى البعض الآخر للقفز فيسقط من جديد، ويحاول البعض الآخر حرق المراحل، ليلحق بالقوم فلا ترحمه نواميس الكون، التي لا تعترف بالكسالى أو المتهورين.

نعم هناك دول عربية «معدودة» تحاول جاهدة اللحاق بدول النخبة، وتقوم بجهود جبارة لكي تصل، ويبدو النتاج واضحاً بشكل معقول، لكن مما تعلمناه من علم الإدارة بأن التغير إذا كان في خارج المؤسسة أسرع من التغيّر الحادث داخلها فإن نهاية المؤسسة ليست بعيدة، ودول النخبة لا تتوقف عن تطوير أساليبها وتقنياتها بشكل محموم، واللحاق بها يستلزم أن يكون ذاك الجهد المحموم لدينا أضعاف ما لديهم، حتى لا يبتعدوا أكثر دون مجاملة للنفس نحن في غنى عنها، فلا تصفق لنفسك إلا عندما ترتقي القمة، أما قبل ذلك فأنت تحتاج لتفكير مختلف، وجهد هائل، وصوت مقيّم صادق.

من يجتهد فسيصل حتماً، ومن يفكر بطريقة مختلفة مبدعة فسيحصد نتاجه كما يتمنى. المهم أن يُزاح من الطريق المتفلسفون كجحا، والمثبطون الفاشلون أمثال صاحب حرب النجوم، فمن لا يعينك ساعده، ومن لا يشحذ همتك صوته لا يجدر به أن يكون بجانبك إن أردت أن تذهب بعيداً في طموحاتك.