في واحدة من أروع الإطلالات وأكثرها تأثيراً في النفس، وبصوت مملوء بنبرة العزيمة والثقة والحب، وبتواضع ممتلئ بكلّ معاني الفروسية والجسارة ما زال صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، يستلهم حكمة الحياة.

ويمتلك شجاعة الامتنان لدروسها التي صقلت شخصيته، حين اختار هذا الوسم البديع «علّمتني الحياة» وجعله مفتاحاً لكثير من تغريداته التي يُطلّ بها بين الحين والآخر على قُرّائه وعاشقي حرفه وحكمته، مقدّماً من خلال ذلك أثمن دروس الحياة، وأكثرها فاعلية في شحذ الهمم، وصقل المعادن، وتنشيط الأرواح والعزائم، والإصرار على أنّ الحياة لا تُعطي أطيب ثمارها إلا لهؤلاء الفرسان المقبلين عليها بكل شغف وجسارة وإقدام.

في ختام حفل القراءة العربي الذي ازدانت مدينة دبي باحتضان فعالياته، وشمله صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد برعايته، ألقى صاحب السموّ كلمة طويلة جمع فيها بين الفكرة والتجربة حين قصّ على المُحتفى بهم موقفاً خاصّاً من مواقف الشباب المبكّر كان له أكبر الأثر في صناعة روح التحدّي في شخصيته.

مؤكداً لهذه الأجيال الصاعدة المنتمية لأمّتها من خلال فعل القراءة واحترام ناموس المعرفة أنّهم هم أمل الأمة، وأنّ الرهان عليهم، وأنّ هذا الدعم الكبير لهم، وهذه الحفاوة بهم هما خير تعبير عن ثقة القائد بهذا الجيل الذي يستعيد أمجاد أمته التي غيّرت تاريخ الإنسانية من خلال كلمة (اقرأ).

«علّمتني الحياة: أنّ حياتنا مجموعة من التحدّيات، وكلّما تغلّبت على أحد التحدّيات كلّما زادت قوتك وعزيمتك، وزاد حبذك للمركز الأول» يستلهم هذا المقطع من كلام صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد واحداً من أشهر القوانين في تفسير التاريخ هو ما يُعرف بقانون «التحدّي والاستجابة»، فالحياة في جوهرها هي مجموعة من التحديات، والاستجابة لها تكون بأحد موقفين:

إمّا التغلّب عليها وإدراجها ضمن خبرات الحياة التي تصبح جزءاً من القوة الذاتية للإنسان، وإمّا بالهروب من أمامها وتسجيل موقف من مواقف الضعف والهزيمة، وهو ما لا يخطر إطلاقاً في تفكير صاحب السموّ، فهو يجزم بأنّ الإنسان كلّما تغلّب على الصعوبات ازداد قوة وعزيمة، بل لا يرضى للإنسان بمجرد التغلّب فهو ينظر دائماً إلى المركز الأول في الحياة بكل ما يترتّب عليه من جهد واستحقاقات، فمجرّد الإنجاز ليس هو المطلوب في فكر صاحب السموّ، بل المطلوب هو التميّز في الإنجاز الذي يكون ثمرته المركز الأوّل في جميع مسارات الحياة.

وتعزيزاً للمقطع السابق من كلام صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد تعود به الذاكرة إلى لحظة تاريخية بعيدة من شبابه المبكر حين كان في العاشرة من عمره، وهي واحدة من القصص الخمسين الرائعة الحضور في سيرته الذاتية (قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً) قصّ فيها أوّل سباقٍ في دبي بكلّ تفاصيله المثيرة، لكنّه اختصرها في هذا المقام الذي لا يتّسع لتفاصيلها الجميلة، حيث قال: «كان أوّل تحدّي في حياتي عندما كنت صغيراً في العاشرة من عمري هو سباق للخيل مفتوح في دبي، قال لي أبي:

سأنظّم سباقاً مفتوحاً وأريدك أن تشارك فيه. كنت في العاشرة من عمري لكن كلمات أبي أشعرتني بالمسؤولية الكبيرة، فاخترت مهرة جميلة اسمها أمّ حلق، لكنها كانت مصابة في ساقها، ولم يجرّبها أحد كفرس سباق، كان أهمّ مشروع في حياتي في ذلك الوقت هو تجهيز أمّ حلق للسباق، كنت أدرّبها وأعالجها أيضاً بمساعدة أمّي التي كانت خبيرة في الأعشاب، وبعد ثلاثة أشهر أصبحت أمّ حلق جاهزة للسباق».

في هذا المقطع من كلام صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد مجموعة من القيم التربوية العميقة التأثير في بناء الشخصيّة القوية للشباب، فوالده طيب الذكرى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، لم ينظر إلى سنّه في تلك الأيّام، بل نظر إلى مواهبه وكفاءته وشجاعة قلبه وكونه أهلاً لتحمّل المسؤولية.

فكان هذا الاختيار أكبر حافز في قلب صاحب السموّ حين شعر بأنّه أهلٌ لثقة هذا القائد الوالد الكبير، فنهض بكل جسارة لتنفيذ هذه المهمة الصعبة، واختار فرساً ليست مجرّبة، بل تعاني من مرضٍ يحتاج إلى صبر في العلاج، واستعان بخبرات والدته طيّبة الذكرى الشيخة لطيفة بنت حمدان، رحمها الله، واستطاع بعد ثلاثة أشهر من علاج هذه الفرس وتدريبها أن يجعلها جاهزة للسباق بين مجموعة من الخيول المدرّبة السليمة، ليكون هذا الدرس هو الدرس الأول في حياة صاحب السموّ الذي تعلّم منه كيف يصبر على علاج هذه الفرس الموجوعة ويهيّئها للسباق القوي المفاجئ.

ويتابع صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد سرد هذه التفاصيل الجميلة المثيرة قائلاً: «وفي يوم السباق امتطيت أمّ حلق وعيني على حكم البداية، وعلت الأصوات بمحاذاة الشاطئ.

حيث انطلقت أمّ حلق بقوة هائلة أدهشتني، ثبّت نفسي على ظهرها الأملس لأنّي كنت أسابق عليها من دون سرج، وكانت الأحصنة من حولي تندفع مثل موجة كبيرة، استعجلتُ أمّ حلق بقدمي، وكانت تنافس فرس أخي الشيخ حمدان العودة الّذي تقدّم عليّ بعدة خطوات، لكنني حثثت أمّ حلق، وفي الضباب استطعت تقليص المسافة بيننا حتى غدا رأس أمّ حلق قريباً من خاصرة العودة.

حثثت أمّ حلق لتعطيني كلّ ما لديها من قوة، فوجدت نفسي أحاذيها كتفاً بكتف لكنّ العودة سبقتنا بخطوة واحدة»، في هذا المقطع الرائع من كلام صاحب السموّ تنويهٌ صريحٌ بقيمة العزيمة والتصميم أثناء السباق، وكيف أنّ هذه الفرس التي كانت مريضة قد دخلت في أعنف لحظات السباق، وأنّ صاحب السموّ قد خاض هذا السباق بعفوية عجيبة حين امتطى فرسه بغير سرج.

والذي يكون له أكبر الأثر في تثبيت الفارس على حصانه، وكيف أنّه كان حريصاً على الفوز بالمركز الأول رغم صعوبة الظروف من جميع الجهات، لكنّ خطوة واحدة حالت بينه وبين تحقيق هذه الأمنية ليقول لنا: لا تستهينوا بالأشياء مهما كانت بسيطة، فبين الأول والثاني خطوة واحدة فقط.

ثم ختم هذا الحديث الثمين العالي بقوله: «تعلّمت من السباق الأول أنّ حياتنا سباق كبير، كلّما كنت مستعدّاً للسباق كلّما نجحت فيه، لا بدّ أن يكون لديك روح التحدّي والعزيمة والإصرار. كلّ السباقات التي جاءت بعد ذلك في حياتي كان فيها روح التحدّي، سباقاتنا لبناء دولة الإمارات العربية المتحدة، وسباقاتنا لبناء الإنسان، والسباق لبناء مدينة تكون أفضل مدينة للعيش في العالم، الحمد لله كان نصيبنا المركز الأول.

لأنّنا نؤمن بأنفسنا، ونؤمن بهذه الأرض الطيّبة، ونؤمن بالأجيال الجديدة، واليوم نحن في سباق لبناء أجيال تؤمن بالعلم والمعرفة والقراءة» لتكون هذه الكلمات الطالعة من مشكاة القلب والروح هي خير تجسيد لقوّة الأمل في قلب صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد الذي صنع المستحيل وظلّت عينه على صناعة المستقبل الزاهر الجميل من خلال هذا الامتداد الواعي في الروح الإنسانية متمثّلة بهذه الأجيال الطالعة مثل زهر الربى في فصل الربيع.