دخلت الانتخابات الأمريكية المنعرج الحاسم، وقبل أسبوع من موعدها في 5 نوفمبر القادم، لا تزال الأرقام تشير إلى تقارب كبير بين المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب.

وتشهد الحملة الانتخابية الأمريكية تجاذبات كبيرة يعترف الملاحظون بأنها انحرفت عن قواعد الحس السليم وحتى عن المسار المعقول والأخلاقي، وخرجت بهذا الاستحقاق المهم بالنسبة للولايات المتحدة والعالم، من صراع البرامج الذي قد ينير سبيل الناخب الأمريكي ويسهل عليه اختيار الأمثل، إلى التركيز على الجوانب الشخصية، وأحياناً القدح والسباب الشخصي.

وبدا من البين أنه من الصعب جداً تصور أي شكل من أشكال الحوار بين المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس والمرشح الجمهوري دونالد ترامب على قاعدة اختلاف الأفكار والبرامج، لتستقر مصلحة الطرفين بالأساس على مجرد كسب ود الأنصار بكل الطرق من أجل تعبئتهم لليوم الموعود، وهو ما يفسر غياب أي جدل حول المواضيع المطروحة من الجانبين رغم أهمية وحساسية هذه المواضيع كقضيتي الإجهاض وأمن الحدود والهجرة والصحة والتعليم.

ويُرجع الملاحظون غياب هذا الحوار في هذه المسائل المهمة وفي غيرها إلى أمرين اثنين، أولهما الانقسام الحاد الذي أصبح يميز المجتمع الأمريكي والذي أوصد كل منافذ التواصل على قاعدة الاختلاف داخل وحدة المجتمع، وثاني هذه العوامل هو صعوبة واستحالة التحاور بين أصحاب الفكر الشعبوي الذي يمثله دونالد ترامب والآخرين الذين تحاول كامالا هاريس التعبير عنهم.

ومثلت استحالة الحوار هذا الموضوع الأساس الذي التقطته المرشحة الديمقراطية لتحاول من خلاله فرض محاورها المحبذة في هذه الحملة الانتخابية، ومن ذلك محاولة إقناع الناخب الأمريكي بخطورة انتخاب دونالد ترامب على أساس «ميولاته الفاشية» والتي تمثل في تقديرها خطراً على الديمقراطية الأمريكية.

وتزداد القناعة لدى الملاحظين كل يوم بأن كامالا هاريس فشلت إلى حد الآن في وضع مسافة بينها وبين الرئيس الأمريكي الحالي، إلى درجة أنها لم تستطع الإجابة في أحد الحوارات التلفزيونية عن سؤال حول ما يفرقها عن جو بايدن.

ومن الواضح أن كامالا هاريس لم تتمكن على مدى هذه الحملة الانتخابية من نحت شخصيتها المستقلة عن جو بايدن والتخلص بالتالي من تأثيره وسلبيات إرثه السياسي، وقد يكون تأخر الرئيس الأمريكي في الإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي أضاع عليها وقتاً ثميناً كانت في أمس الحاجة إليه من أجل رسم استراتيجية انتخابية تعبر عن شخصيتها المستقلة المنشودة، وهي لذلك وجدت نفسها مجبرة على إبراز مخاطر انتخاب دونالد ترامب على الديمقراطية وعلى وحدة المجتمع الأمريكي أكثر من السعي إلى تقديم صورة واضحة عن شخصيتها وبرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستقلة عن فترة حكم جو بايدن.

وقد أسهمت سلوكيات دونالد ترامب ومواقفه الرافضة مسبقاً لأي سيناريو انتخابي لا يوصله إلى البيت الأبيض في تأسيس ودعم هذا الخطاب الانتخابي للمرشحة الديمقراطية، وتحتفظ ذاكرة الأمريكيين بأحداث السادس من يناير 2021، حيث اقتحم ترامب مبنى الكابيتول ما أدى إلى تعطيل جلسة مشتركة للكونغرس من أجل إضفاء الطابع الرسمي على فوز جو بايدن في انتخابات 2020، ومعلوم أن ترامب يرفض إلى اليوم الاعتراف بهزيمته في تلك الانتخابات.

وقد نجح ترامب في حمل أنصاره على العيش داخل «حقيقة» موازية لا علاقة لها بالواقع الفعلي للمجتمع الأمريكي، وتمكن على مدى السنوات من إقناع أنصاره بأنه المصدر الوحيد للحقيقة، وأضحت هذه الشرائح من المجتمع رهينة بالكامل لخطاب دونالد ترامب الشعبوي والمحكوم بعقلية ثأرية لافتة، وهو خطاب أسهم ويسهم في مزيد من تقسيم المجتمع الأمريكي بحسب عديد الملاحظين.

ويبدو أن سلبيات خطاب ترامب لم تمثل عائقاً قد يمنعه من الوصول إلى البيت الأبيض وهي إلى ذلك موانع دعمتها نسبة التضخم المرتفعة وغلاء الأسعار والمعيشة، والأفضلية التي يوليها الناخب الأمريكي للمسائل الداخلية والاقتصادية، والتراجع المطرد لجاذبية القيم الديمقراطية، وطغيان الفكر الشعبوي وقضايا الهوية، وهو ما يجعل من هذا الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الأمريكي استفتاء على دونالد ترامب أكثر منه اختباراً بين مرشح جمهوري ومرشحة ديمقراطية.