قبل عشرين عاماً، وتحديداً في الثاني من نوفمبر عام 2004م، ودعت الإمارات العربية المتحدة بقلوبٍ فطرها الحزن، وعيونٍ تسح بالدمع قائداً لا يُنسى، وبدْراً لا يغيب، وجبلاً راسخاً في صميم الذاكرة والوجدان هو المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، القائد المؤسس، والفارس الباني، والوالد الرحيم، والسراج الحكيم، بعد أن عاش سبعة وثمانين عاماً كان فيها رمزاً من رموز الخير والعطاء حتى أصبح اسم «زايد الخير» استحقاقاً خاصاً به لا يُنازعه فيه أحد، فقد كان زايد أمةً وحده في الكرم والعطاء والسماحة والسخاء، قدم خلال حياته المديدة لوطنه وأمته وللإنسانية ما جعله إنساناً عصياً على النسيان، خالد الذكرى في القلب والروح والوجدان.

وتعبيراً عن هذا الحضور العميق لصاحب الذكرى الذي لا يغيب، ومن مشكاة الوفاء النادر كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، كلمة من قلب يحمل في جوانحه حُباً لا تُبليه الأيام للشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله، حيث قال: «رحم الله المؤسس، والأب القائد، والزعيم الخالد، زايد بن سلطان آل نهيان، وأسكنه فسيح جنانه، وجعل أثره وعمله والخير الذي بناه لشعبه في ميزان حسناته» وهي كلماتٌ وجيزة في عددها لكنها تستلهم كثيراً من المواقف والذكريات والقصائد والكتابات التي جاد بها قلم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تخليداً لذكرى الشيخ زايد الذي سماه «أبي الأكبر» في قصيدة بديعة تحمل هذا العنوان قال فيها:



نَمْ قرير العين بعد التعب

يا أبي الأكبر من بعد أبي

أنت ما كنتَ لشعبي قائداً

بل زعيماً لجميع العرب



لقد عبر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عن المكانة الكبرى للشيخ زايد بن سلطان في قلبه بغير وسيلة من وسائل الحديث والكتابة، لكن هذا الحب قد بلغ ذروته العليا حين خصص ديواناً كبيراً سماه «زايد» اشتمل على سبع وثمانين قصيدة هي عدد السنوات التي عاشها الشيخ زايد، رحمه الله، على هذه الأرض، قائداً فذاً، وفارساً مُلهماً، وبانياً متفرداً، وحكيماً يستلهم منه القادة والأبناء أصفى دروس الحكمة وأعمق خبرات الحياة، فقد كان زايد في نظر صاحب السمو هو «شيخ العصور» بسبب ما عُرف عنه من الحكمة والأناة والحزم والحب حتى غدا «حكيم الجزيرة» وشيخ العقلاء فيها، وما وصلت قضية من قضايا العرب إلى مسامع الشيخ زايد، رحمه الله، إلا وكان حلُها عند هذا الشيخ الجليل الذي عرف له العرب قدره، ووثقوا بكريم أخلاقه، ونزاهته وسماحته وحرصه الأكيد على مجد الأمة وهيبتها بين الأمم، ولذلك لم يكن الشيخ زايد، رحمه الله، فقيداً للإمارات العربية المتحدة وحدها، بل كان فقيد أمة العرب والإسلام بل والإنسانية جمعاء، فقد كان رجل إجماع لم يختلف على محبته اثنان، وكم ذرفت عليه عيون وتفطرت لفراقه أكبادٌ ممن كان يعولهم ويحميهم ويحقق لهم الأمان، ويحوطهم بكل ما وهبه الله من عزيمة وإحساس عميق بالمسؤولية تجاه الوطن والإنسان. وتعزيزاً للمحتوى النبيل لهذه التغريدة التي كتبها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في الذكرى العشرين لرحيل الشيخ زايد، تم إرفاقُ مقطع صوتي من كلام صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد قال فيه: «الناس نوعان: زائد على الحياة وزائد فيها، وزايد بن سلطان من النوع الثاني، زاد إلى حياته حياة شعب، وأضاف لمسيرته إحياء أمة، ونفع بحكمته وحنكته ملايين البشر، هذا هو الخلود الحقيقي» وهذه الكلمات المتوهجة بالوفاء والتوقير لشخصية الشيخ زايد، رحمه الله، هي طليعة القصة الخامسة والأربعين من سيرة صاحب السمو الذاتية (قصتي: 50 قصة في خمسين عاماً) وعنوانها «رحيل زايد» صدرها ببيت الشعر المشهور:

الناس صنفان موتى في حياتهمُ

وآخرون ببطن الأرض أحياء

ليكتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد واحدة من أروع قصص الوفاء حين اعتصر قلبه وذاكرته من الذكريات الكثيرة التي تجمعه بهذا المعلم الملهم، الذي وصفه بقوله: «علمنا زايد كيف يمكن أن يبقى الإنسان حياً في القلوب والعقول، علمنا زايد كيف يمكن أن يبقى الإنسان عالياً في الحياة وفي الممات»، ليسجل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد لحظات الرحيل بإحساس الشاعر المكلوم مفسراً هذا الخلود لشخصية الشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله، في قلوب أبناء شعبه حين قال: «رحل زايد بهدوء في الثاني من نوفمبر من العام 2004، لعل رحيله بهدوء هو الذي يجعل شعب الإمارات ما زال يعيش مع زايد كل يوم، يعيش مع أقواله، يعيش مع تسجيلاته، يعيش مع حكمته ويستذكرها، ويتخذها منهاجاً له في مسيرته».

وفي ظلال هذه الذكرى العميقة الحضور في الوجدان العام لأبناء هذا الوطن الحبيب، يأتي صوت سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، حفظه الله، ليعطر الأسماع بذكرى رحيل الشيخ زايد حين ألقى بصوته المتدفق بالفروسية والوفاء بيتاً شعرياً قال فيه:

هذا هو الماضي وحاضرنا ومستقبل مدام

هذا حكيم أمة محمد من عرب والاّ عجم

وهو بيتٌ بديعٌ يلخص الموقع الكبير للشيخ زايد في أمة العرب حين أصبح هو الحكيم المرجوع إليه في المهمات والملمات، ويزداد هذا البيت تأثيراً وجمالاً حين نذكر البيت السابق عليه، حيث يقول سمو الشيخ حمدان في بيان أخلاق التواضع في شخصية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله:

تواضعه بين البشر وهو من أعلاهم مقام

خلاه يكبر في عيون ملوك عصره والخدم

ليظل الشيخ زايد بسيرته الخالدة نبراس هداية ومشكاة نور تهتدي بها القادة وتسير من خلفهم الأجيال، وهُم يهتفون بقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في حق معلمه وملهمه الشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله:

لم يكن زايد فينا واحداً

بل هو الأمة حينَ النُوَبِ