أضحت فقط ساعات قليلة تفصل الولايات المتحدة، والعالم كله، عن معرفة من سيكون الرئيس – أو الرئيسة - الأمريكي الجديد، في هذه اللحظات الفاصلة غير المسبوقة في منطقتنا والعالم. ولقد كان انتخاب رئيس أمريكي جديد، أو استمرار القديم، يمثل دوماً لمختلف أركان النظام العالمي حدثاً مهماً يستحق الاهتمام، ومتابعة آثاره على هيكل ومضمون هذا النظام، وشكل ومدى التفاعلات بين مكوناته.

فمنذ أن انخرطت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية عقب الهجوم الياباني على أسطولها الموجود في ميناء بيرل هاربر بجزر هاواي عام 1941، وما أسفر عنه من خسائر بشرية وعسكرية أمريكية فادحة، بدأ الدور الحقيقي العالمي لها منذ نشأتها في القرن الثامن عشر كدولة فيدرالية كبرى، وخرجت وللأبد من عزلتها بداخل القارتين الأمريكيتين الشمالية والجنوبية.

ومنذ انتهاء هذه الحرب العالمية والمشاركة الفعالة والحاسمة للجيوش الأمريكية فيها وبالنحو الذي انتهت إليه، أصبحت الولايات المتحدة وحتى اليوم القوة الأولى في العالم، بكل المؤشرات المتاحة على مختلف الصعد الاقتصادية والعسكرية، والسياسية، والدبلوماسية، والتقنية.. وغيرها.

ولعقود سبعة تالية لنهاية هذه الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم أصبح شكل ومضمون واسم النظام العالمي مرتبطاً دوماً بمكانة ودور الولايات المتحدة فيه، فحتى انهيار الاتحاد السوفييتي، والكتلة الشرقية التابعة له، بدءاً من مفتتح تسعينيات القرن العشرين، ظل النظام العالمي يوصف بالنظام القطبي الثنائي، لوجود واشنطن وموسكو على قمته، متبوعاً كل منهما بعدد من الدول الحليفة والشريكة.

وبداخل هذا النظام الثنائي القطبية تتابعت مراحل العلاقات بين رأسيه، من سياسة حافة الهاوية والصدام والاشتعال الوشيك، إلى الحرب الباردة، إلى الوفاق، بكل ما كان لكل منها من سمات ومظاهر. وخلال العقدين الأخيرين بدا واضحاً.

ومؤكداً أن النظام العالمي آخذ في التغير في مضمونه وشكله، بظهور وقوة كل من الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا عسكرياً والهند، ليتحول تدريجياً إلى نظام «متعدد الأقطاب» كما يسميه المتخصصون، إلا أن موضع الولايات المتحدة ظل دوماً على رأس هذه الأقطاب، بالرغم من حركتي التقدم للبعض منهم على محاور معينة أسرع منها، وتراجعها على محاور أخرى لصالح البعض منهم.

بهذا التطور في النظام العالمي بكل مكوناته، السياسية والاقتصادية والعسكرية ومختلف مكونات القوة الناعمة، والذي استغرق من عمر البشرية ما يزيد على خمسة وثمانين عاماً منذ دخول الولايات المتحدة غمار الحرب العالمية الثانية، يبدو مؤكداً أن الموضع الأمريكي في هذا النظام، الذي لا شك في توجهه نحو تعدد الأقطاب، سيظل على الأقل حتى عقدين أو ثلاثة عقود قادمة، وبكل المعايير، ضمن الأقطاب الأكبر في العالم، بغض النظر عن عددها، وتفاوت تأثير كل منها على العلاقات الدولية، ومضمون وشكل النظام العالمي بكل مكوناته المختلفة.

وبغض النظر عن الموافقة أو الرفض لمجمل أو لبعض السياسات الأمريكية في النظام العالمي خلال هذه العقود الطويلة، وبغض النظر أيضاً عن تعدد الرؤساء الذين قادوا الولايات المتحدة أثناءها وتوزعهم بين الحزبين الرئيسين، الديمقراطي والجمهوري، فقد ظل موضع بلادهم في النظام العالمي محل إجماع من ناحية، واستراتيجية ثابتة لكل مؤسسات وأجهزة إدارة الحكم فيها.

ولم يمنع هذا من وجود بعض – أو كثير – من الاختلافات بين رؤساء أو إدارات أمريكية حول كيفية التفاعل مع بقية دول النظام العالمي، وبخاصة من يشغلون مكانة عالية فيه، مما أدى للمراحل التي سبق الإشارة إليها من الصدام وحافة الهاوية والحرب الباردة والوفاق، ولكنهم جميعاً ظلوا مصرين وساعين لدور أمريكي عالمي، يعطي لبلادهم الموضع الأول في ترتيب دول العالم.

من هنا فإن انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأكثر سخونة على الإطلاق، وأياً كان الفائز بالبيت الأبيض، لن ينعكس على النظام العالمي - في المديين القصير والمتوسط على الأقل - بشيء جوهري.

فسيظل أي منهما محافظاً ومصراً على دور وموضع بلاده في النظام العالمي، حتى لو اختلفت سبله في التعامل مع قضايا هذا النظام، سياسية كانت أم عسكرية أو اقتصادية، ولن يؤثر هذا أبداً على جوهر التحرك الأمريكي المتواصل منذ الحرب العالمية الثانية: أن تظل أمريكا هي الأولى عالمياً، منفردة أو حتى بقربها دول أخرى.



باحث وكاتب والرئيس الفخري لاتحاد الصحفيين العرب