من الأخطاء الشائعة أن الإنسان يجوب الأرض باختلاف طبيعتها وحرارة بقاعها، يقطن أينما يلذ له العيش، فيتخذ ملابس كثيفة في البقاع الباردة، والملابس الخفيفة في المناطق الحارة أو المتوسطة، اعتقاداً منه بأن الملابس هي التي تدفئ الجسم، وفي حقيقة الأمر أنها مجرد وسيلة لحفظ الحرارة، التي تتولد في الجسم من الغذاء والحركة، ولذلك كانت الألعاب الرياضية ممدوحة في الشتاء.



ومن الأخطاء الشائعة كذلك من يرى ضرورة أن الإنسان لا يكون على حقيقته، في تعامله مع الناس، بأن يغطي وجهه برداء مزيف، يستخدمه حسب المكان والزمان الذي يضع نفسه فيه، على رغم أنه ليس في حاجة إلى هذا الرداء أصلاً، ففي طبيعة الحال لا يكون الإنسان قريباً من القلب إلا في حالة واحدة عندما يكون حقيقياً، فيقدم نفسه للآخرين على حقيقته، ووفق سجيته وطبيعته دون تكلف، في اتحاد كل من القلب والعقل معاً لإبراز صورة جميلة، فكلاهما وجهان لعملة واحدة على رغم اختلافهما في كثير من الأحيان، فمن نوادر الحياة اللقاء بينهما، بل قد أشعر أحياناً وكأنهما في فضاء شاسع بين مقطورتين في قطار مزحوم في ساحة واحدة، مع اختلاف وجهات كل منهما. وعندما نمتطي أحدهما بعجل في تلك الأثناء لا نسمع سوى صوت المقطورة التي امتطيناها، ونحاول أثناء الرحلة لعل وعسى أن يلتقيا يوماً ما، ولو من بعيد، فينسج كل منهما حديثاً صامتاً بين عين تدمع وعين تكابر، وتدور رحى الحرب بينهما، فلا العين الدامعة تتوقف، ولا المكابرة تروض، وهكذا وما إن يلتقيا في محطة ما ألبس أصحابها جلباب الوقار والحكمة حتى ينسجا خيوطهما، ويسيّراها على مبتغاهما.



هكذا كانت «الكونتيسة إلكسندرا» إحدى أهم هذه النوادر. في عام 1857 التقى الكاتب الروسي ليو تولستوي إحدى قريباته، وقد وصفها وصفاً جميلاً في قمة الرقي، وقال عنها إنها أميرة بطبعها، فكتب: هي الكونتيسة إلكسندرا، كانت ذكية وذات ثقافة واسعة، رقيقة القلب متقدة القلب في غير نزق، رشيقة المظهر والحركة من غير تكلف، لها دماثة أصيلة، واحتشام جاء من طبعها، ثم مما تقلبت فيه من مقامات عالية، وكانت ذات عقل ودين، تتمسك بأهداب الفضيلة، وتغار على دينها، وتخلص له.



ومع ذلك فالكونتيسة إلكسندرا لم تكن سوى نفسها، أي أنها كانت تبدو دائماً على حقيقتها، وهذا هو المفتاح الذي قد يجهله كثيرون منا، فعندما نضع هذا القناع جانباً، أو نُنحّيه قليلاً فسنتمكن من رؤية أنفسنا بسماتنا الطبيعية، التي لم نتجرد منها، فتظهر بالتأكيد في إطار معين نحنُ وضعناه لأنفسنا بطبيعة الحال، ولكن سرعان ما يتلاشى في وقت معين.. ولكن متى؟ ومع من؟! هذا هو السؤال!



أصاب جفنيّ الفتور، وبدأت أطرافهما في الانكسار، فأطبقتهما بين طيات مذكرة تولستوي، وفتحت عيني على صوت الثلج يغزو نافذتي، وزهور النرجس، أصبحت كالجليد، نسيت أننا في منتصف كانون الأول (ديسمبر)، لم أتمكن من تحريك جسمي وكأن عظامي انقبضت، وتقلصت عضلاتي، شعرت بالاضطراب وعدم الاستقرار. وضعت مذكرة تولستوي جانباً، وودعت زهور النرجس، وأقفلت النافذة، وفي هذه الأثناء أعددت فنجاني وعيناي بين تراقص الدخان وتمرد الثلج.

لحظة تأمل

—-------

كلاهما حقيقي، وكلاهما نوع مضاد للنوع الآخر من التغيرات الكيميائية، ويشعرانك معاً بسعادة.

من منا يمكنه أن يكون حقيقياً وسط زمن يكتسي عدداً لا بأس به من التغيرات؟!