لو تصورنا أن هذا العالم على شكل إنسان فإن العضلات هي أمريكا، والعقل هو بريطانيا. قد يكون ذلك تعبيراً مبالغاً فيه، لكنه الأقرب إلى فهم هذا العالم. الولايات المتحدة – حتى الآن – هي الدولة الأقوى عسكرياً وسياسياً، ويمكنها أن تغير أنظمة، ولكنها لا تستطيع أن تبني دولاً، ذلك يحتاج إلى (عقل) متوفر عند الإنجليز، وغير متوفر عند (العم سام)!
بعد أن انتهت المتابعة الحامية للحملة الانتخابية في الولايات المتحدة بدأت الصحافة الأمريكية الجادة تفتح ملفاً جديداً، ماذا عن ترامب رقم 2 في البيت الأبيض؟
مجلة الـ«فورن أفيرز» المؤثرة، في مقالها الأسبوعي للمشتركين على الشبكة الإلكترونية، فتحت هذا الملف، وطرحت عدداً من القضايا يمكن أن تقع تحت عنوان شامل أن (ما يصلح للحملة الانتخابية لا يصلح للإدارة الدولية)، وتناولت عدداً من النقاط في هذا الملف على أساس مقارنة سلوك ترامب السياسي في الدورة السابقة له في البيت الأبيض بين 2016 - 2020، مع توقع ما يمكن أن يتم في الدورة الجديدة 2024 - 2028، والتي تبدأ في يناير المقبل.
أول الأسئلة أن شخصية ترامب تحب التعاون مع (الموالين) وإن كان ذلك مقبولاً في السياسة الآن، أن ما يفضل أكثر لإدارة الدولة هم المهنيون، هو يفضل الموالين في توزيع المناصب ويتجاهل، كما فعل في دورته الأولى، كل توصيات المؤسسات الرقابية على بعض الأشخاص ممن اختارهم، والتي تقدم عادة رأيها في المحاذير إزاء بعض المرشحين، ذلك خلاف ما كان يقوم به الحزبان في تاريخ تبادل السلطة الطويل في الولايات المتحدة.
لذلك انتهى ترامب في دورته الأولى بأشخاص غير أكفاء، كما أنه لا يعترف بمفهوم (الموالاة –الناقدة)، كما في النظام الإنجليزي مثل his Majesty opposition، أي الموالاة ذات الرأي المخالف تحت سقف المصالح العامة. الولاء عنده هو الأهم، وقد اشتكى عدد من مستشاري الأمن القومي، الذين عملوا معه في الدورة الأولى ثم استقالوا أو أقصاهم، من أنه يستمع إلى النصيحة الفنية، ولكنه ينفذ ما يعتقد أنه الصحيح.
وضرب المقال عدداً من الأمثلة مع هربت ماك ماستر، وهو عسكري سابق له خبرة وازنة، وجون بولتون وهو سياسي محافظ خبير، من بعدهما تركت المشورة في القضايا الحاسمة للأقل خبرة من الموظفين، الذين يرغبون في الاحتفاظ بأمن وظيفي، وعليهم الموافقة على رغبات الرئيس، ذلك السلوك قد يكون مفيداً في إدارة الشركات، وليس الدول.
تتخوف الـ «فورن أفيرز» من أن يعاد ذلك السلوك من جديد، لذلك ينتظر المراقبون من هم الأشخاص الذين سوف يعينهم ترامب في الوظائف الحاكمة في إدارته الجديدة.
في الموضوع الثاني، المهم أن العقدة الكبرى الآن في العالم هي الحرب الأوكرانية - الروسية، وقد بدأ ترامب كما يقول المقال بالاتصال بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإذا أجبر الأوكرانيين على الجلوس مع الروس، وتنازلوا عن بعض أراضيهم، فليس من المؤكد أن روسيا سوف تبقى هناك، كما يذهب المقال، إذا ضمنت إعلان حياد أوكرانيا فقد تتوسع في قضم بقية الأراضي، وهو ما يخيف حتى الفزع عدداً من دول أوروبا، لذلك فإن دول أوروبا تنظر في خيارات أخرى، ومن بينها محاولة إقناع ترامب بالتروي، وأيضاً بناء قوة أوروبية عسكرية. إنما هذا الملف سوف يكون حاسماً في رسم المستقبل في أوروبا والعالم.
في الشرق الأوسط، قد تذهب الإدارة الجديدة مع الحكومة اليمينية في إسرائيل إلى قلع شوكة أذرع إيران مما يسميهم (جماعات الإرهاب)، ولكن من دون تصور حقيقي قابل للتطبيق بإقامة دولة فلسطينية، وكأنك عالجت العرض، وتركت المرض الحقيقي الذي قد يتفاقم من جديد! من هنا ثمة أهمية في إقناع الإدارة الأمريكية القادمة بأن تكون هناك لها حزمة متضافرة من السياسات تؤدي في نهاية الأمر إلى تراجع الإرهاب، وتنفيذ حل الدولتين، هذا حتى الآن غير مفكر فيه! فهو يحتاج إلى خيال سياسي ابتكاري وشجاعة في نفس الوقت!