في الأول من أبريل من كل عام تطل ذكرى وفاة موسيقار عدني كبير، امتلك مواهب عدة فاستثمرها أفضل استثمار في الارتقاء بالغناء اليمني وتجديده ونشره خارج الحدود على مدى سنوات عمره التي انتهت بوفاته في عام 1993 في حادث مروري بالقرب من مدينة ذمار أثناء عودته من صنعاء إلى عدن.

لم يكن الموسيقار أحمد قاسم مجرد فنان عادي. فمن يتعمق في سيرته يجد أنه كان ملحناً راقياً، ومطرباً ذا صوت شجي يشنف الآذان ويلامس الوجدان، وكاتباً لكلمات الأغاني العاطفية والوطنية، ومدرساً للموسيقى، وقائداً للأوكسترا، وعازفاً ماهراً على مختلف الآلات الموسيقية، وممثلاً سينمائياً، ومؤلفاً للمنولوجات المتنوعة، ومعداً لمسرحيات الأطفال. لذا لم يكن غريباً أن يحقق شهرة واسعة محلياً وعربياً وإقليمياً، وأن يتحدث عنه الأدباء والشعراء والموسيقيون والمثقفون والإعلاميون داخل وطنه وخارجه، مشيدين بعبقريته وجمال صوته وذائقته الشعرية التي ساعدته على اختيار أفضل القصائد العامية والفصحى للغناء.

وفي هذا السياق قالت صحيفة الأيام العدنية (30 / 3 / 2023) إن أفضل من تحدث عن أحمد قاسم هو الشاعر اليمني الكفيف عبدالله البردوني، حيث كتب البردوني في كتاب التأبين الذي أصدرته وزارة الثقافة والسياحة اليمنية بعد وفاة فناننا قائلاً: «كانت القصيدة التي يغنيها أحمد قاسم تقرأ شعراً لكنها تسمع غناء، وكأنها عمل مختلف»، مضيفاً ما مفاده أن المغني الأصيل هو من يحول القصيدة إلى عمل مختلف غنائي بدلاً من قصائدي، وأن أحمد قاسم نجح في هذا نجاحاً باهراً وكبيراً.

شخصياً تعرفت على صوته الجميل وألحانه الرائعة لأول مرة في ستينيات القرن العشرين من خلال برنامج «ما يطلبه المستمعون» من إذاعة البحرين. وقتها كانت اثنتان من أغانيه وهما «صدفة التقينا» و«ياعيباه» (كلتاهما من ألحانه وكلمات لطفي جعفر أمان) تتسيدان ساحة الغناء في الخليج والجزيرة العربية ويترنم بهما الكثيرون من عشاق الطرب العدني في حلته الجديدة التي فصلها أحمد قاسم بدقة وعناية من خلال أسلوبه الخاص وعزفه المتقن للعود. ولد أحمد أحمد قاسم في 11 مارس سنة 1938 بمدينة عدن ونشأ بها يتيم الأب في ظل أسرة متوسطة الحال مكونة من ثلاثة أبناء كان هو أوسطهم.

في طفولته كان يستخدم صوته الرخيم في رفع الآذان من مسجد بانصير القريب من الحي الذي يسكنه. أحبت أمه صوته فتمنت أن يكون مقرئاً للقرآن، فأرسلته لتعلم القرآن وتجويده وحفظه لدى الشيخ محمد بن سالم البيحاني، أحد مشايخ الدين المعروفين آنذاك في عدن والذي رعاه وأعجب بتلاواته للقرآن وفق المقامات المعروفة، لكنه لاحظ ولعه الشديد بالغناء، فنصح أمه أن تترك لصبيها العنان كي يختار الطريق الذي يجد نفسه فيه.

كان قاسم وقتها متأثراً بما كان يسمعه من غناء والدته أثناء نشرها الغسيل، وما كانت تصله من دندنات أخيه على آلة عود خشبية بدائية، وهو ما شجعه على الاستماع إلى أغاني محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وترديدها مستخدماً ناياً مصنوعاً من القوارير مكسورة العنق، وذلك أثناء سكناته وخلواته ودراسته في مدرسة بازرعة الخيرية زمن الإدارة البريطانية. ومن أجل تعلم العزف التحق بمدرسة الموسيقار يحيى مكي الذي أجاد على يده عزف العود، وهذا ما شجعه في عام 1954 على طرق أبواب إذاعة عدن لتسجيل أولى أغانيه.

بعد ذلك أسهم مساهمة كبيرة في تشكيل ما سمى بندوة الموسيقى العدنية مع أصدقائه خليل محمد خليل وسالم أحمد بامدهف ومحمد سعد عبدالله وأبو بكر فارع وياسين فارع والشاعر الراحل الدكتور محمد عبده غانم وحسين بخش وغيرهم من رواد الغناء في عدن، كما راح يشارك في معظم الحوارات الثقافية والفنية الدائرة آنذاك في عدن، فكان أثرها عليه بارزاً.

في عام 1955 زار عدن الموسيقار فريد الأطرش، فالتقى بقاسم وأعجب بصوته وحماسه فشجعه على صقل مواهبه بالدراسة الأكاديمية في مصر، بل يقال إن الأطرش ساعده في الحصول على بعثة دراسية للالتحاق بالمعهد العالي للموسيقى في القاهرة.

وهكذا سافر صاحبنا إلى مصر في سنة 1956، حيث تعهده الأطرش هناك بالرعاية، بل مهد السبيل أمامه للظهور في الحفلات التي كانت تقام آنذاك بمشاركة كبار الفنانين المصريين مثل حفلات «أضواء المدينة» ومواسم الربيع الغنائية، كما ساعده في تسجيل بعض أغانيه في إذاعة «صوت العرب» مثل أغنيتي «الكوكب الساري» و«كم أحبك»، فكان أول فنان يمني يشارك في «أضواء المدينة» وأولهم لجهة التسجيل في «صوت العرب».

أنهى قاسم دراسته في مصر بحصوله على دبلوم المعهد العالي للموسيقى في عام 1958، وعاد إلى عدن في عام 1960 في فترة كانت بلاده فيها تشهد نهضة فنية ورعاية حكومية للمبدعين، فقام بتدريس الموسيقى في معهد جميل غانم وعدد من المدارس الحكومية، ثم أسس في العام نفسه فرقة موسيقية عدنية بمشاركة زميليه محمد زيدي وعبدالرحمن باجنيد، وهي الفرقة التي أطلق عليها اسم «فرقة أحمد قاسم التجديدية»، التي يوحي اسمها بأنه كان مصمماً على تجديد الأغنية العدنية الدارجة والارتقاء بها.

وبالفعل، فمن خلال هذه الفرقة، التي فرض على عازفيها زياً موحداً بخلاف ما كان شائعاً، سعى بوعي إلى تجديد الأغنية العدنية واليمنية، عبر استثمار ما تعلمه في مزج تقنيات العصر بعراقة الماضي، وعبر إدخال آلات موسيقية حديثة غير مألوفة في الغناء العدني مثل الجيتار والأوكورديون، الأمر الذي أثمر عن ظهور مدرسة غنائية عدنية جديدة، نجد تجلياتها في ما قدمته فرقته من أغانٍ رائعة، كتب كلماتها شعراء أبرزهم لطفي جعفر أمان وسعيد الشيباني وأحمد شريف الرفاعي ومحمد عبده غانم وعلي محمد لقمان وأحمد الجابري وعبده عثمان محمد وفريد بركات وعبدالله عبدالكريم ومحمد سعيد جرادة وإدريس حنبلة.

من هذه الأغاني: «يا عيباه»، و«مستحيل»، و«حقول البن»، و«خطوة خطوة»، و«صدفة إلتقينا»، و«إنت ولا حد سواك»، وغيرها من تلك التي راحت تغنيها فرقته في العديد من الحفلات التي أقامها في مدن وسلطنات الجنوب العربي ودول الخليج العربية، فحقق شهرة كاسحة. ومما يذكر لأحمد قاسم عدا ما تحدثنا عنه، أنه أطلق لأول مرة في تاريخ عدن فرقة غنائية نسائية مكونة من ثلاث فتيات هن: صباح منصر ورجاء باسودان وأم الخير عجمي، تحت اسم فرقة الثلاثي اللطيف.

لم ينقطع قاسم عن مصر، فكرر زياراته لها للالتقاء بفنانيها واكتساب المزيد من تجاربهم. وفي عام 1965 قرر إنتاج فيلم مصري يشارك فيه بالتمثيل والغناء، بهدف الترويج للغناء العدني الجديد كما قيل. وهكذا قدمت السينما المصرية لأول مرة فيلما يقوم ببطولته فنان يمني، وهو فيلم «حبي في القاهرة» الذي عرض في دور السينما سنة 1966 من إخراج عادل صادق وبطولة أحمد قاسم وزيزي البدراوي بمشاركة سهير زكي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن وعبدالمنعم إبراهيم وزوزو ماضي والكويتي نجم عبدالكريم.

وفي هذا الفيلم غنى قاسم 10 أغنيات حاول فيها المواءمة بين الكلمات والألحان اليمنية والمصرية. لم يفشل الفيلم، لكنه لم يحقق الإيرادات المطلوبة. وفي هذا السياق أخبرنا تلميذه الفنان اليمني المعروف أحمد فتحي أنه في أواخر الستينيات الميلادية أقام الفنانان اليمنيان محمد سعد عبدالله ومحمد مرشد ناجي حفلاً بمدينة الحديدة شارك فيه أحمد قاسم، فكان ذلك الحفل هو الأول من نوعه الذي جمع هذه القامات الغنائية الثلاث، ويضيف: إن الغرض من الحفل كان جمع المال لدفع تكاليف إنتاج فيلم «حبي في القاهرة».

والمعروف أن أحمد فتحي تتلمذ في ريعان شبابه على يد قاسم، فعلمه العزف على العود وتبناه فنيا ونصحه بالقدوم من مسقط رأسه في الحديدة إلى عدن لصقل مواهبه، فسافر إليه وأقام عنده في أواخر الستينيات وتعلم منه الكثير.

واصل قاسم تعمقه في الموسيقى أكاديمياً، فسافر لهذا الغرض إلى باريس التي أقام ودرس بها ما بين عامي 1970 و1973، كما سافر لنفس الغرض إلى موسكو، حيث تتلمذ وتثقف على يد الموسيقار الروسي الشهير «جيوفاني ميخائيلوف» ما بين عامي 1980 و1982، ومن موسكو انتقل إلى لندن، حيث أقام من عام 1983 إلى 1984 بقصد التعرف على الموسيقى الإنجليزية والغربية. وبعد أن حط رحاله مجدداً في بلاده تقلد منصب المدير المالي والإداري بوزارة الإعلام في عام 1986، ثم صار رئيساً لقسم الموسيقى بمدينة عدن منذ عام 1990 وحتى تاريخ وفاته رحمه الله.

أحد الذين تأثروا بقاسم وشبوا على أنغامه هو عازف العود الشاب «أمير عبدالله» الذي سجلت عنه صحيفة «عدن الغد» (13 / 3 / 2016) قوله: «إن قاسم أحد مؤسسي الفن العدني؛ سخَّر علمه وخبرته التي اكتسبها من دراسته في الخارج من أجل تحديث وتطوير الأغنية في اليمن. وقد تميز فنه بالمزاوجة بين المقامات الموسيقية الشرقية والإيقاعات الغربية.

وجمع بين الأغنية الشعبية اليمنية والأغنية الطربية؛ فأنتج توليفة جميلة ونادرة أضافت للأغنية العدنية إضافة نوعية».

أما الفنان والباحث الموسيقي اليمني عصام خليدي فقد قال عنه: «كان أحمد قاسم موسيقياً باذخاً متميزاً وفناناً خالداً، وهو صاحب أفضال موسيقية متعددة وكثيرة، ورائداً رفع على كاهله مهمة النهوض بالموسيقى والغناء اليمني؛ ذلك بتأسيسه أشكالاً موسيقية مبتكرة جديدة، حملت على جنباتها عمقاً وبعداً موسيقياً ذا دلالات ورؤى لم يسبقه فيها أحد، حيث يتضح ويتجلّى ذلك باهتمامه وإعطائه الجانب الموسيقي دوراً هاماً، استطاع به ومن خلاله أن ينمّي الأذن اليمنية ويرتقي بالذائقة الموسيقية والإحساس بقيمتها التعبيرية عند المستمع اليمني، مكّنه من تحقيق ذلك الدور الريادي الجديد بنجاح عوامل وأسباب كثيرة، أهمها: موهبته الفذّة المبكرة، دراسته العلمية المنهاجية، المناخ الثقافي والفني الخصب في فترة الخمسينيات، ووجود باقة متميزة من الأدباء والشعراء الذين استفاد منهم كثيراً».

ونختتم بما كتبه عنه الدكتور عبده بن بدر في موقع «خيوط»، حيث قال: «لم يكن أحمد قاسم، ذلك الفتى الوسيم والأنيق، مجرداً من الموهبة الموسيقية حينما التحق بمدرسة (بازرعة)، مطلع الخمسينيات، بل كان موهوباً ومنفتحاً على عالم الموسيقى والغناء، وذا إرادة قوية، ويحلم أحلاماً كبيرة بدافع من طاقة هذه الخصال، بأن يكون نجماً لامعاً في سماء الأغنية اليمنية، لا نيزكاً يُضيء بسرعة ثم يحترق».