تم مؤخراً في جاكرتا تنصيب «برابوو سوبيانتو» رئيساً جديداً للبلاد، خلفاً لجوكو ويدودو الذي حكم إندونيسيا لفترتين رئاسيتين متعاقبتين.، وبهذا حقق سوبيانتو حلماً قديماً داعبه ليقود هذا البلد الآسيوي الكبير منذ أن كان عسكرياً وقائداً للقوات الخاصة في عهد عمه (والد زوجته) الديكتاتور سوهارتو، ومروراً بأكثر من محاولات فاشلة على مدى عقد من الزمن لدخول قصر مرديكا الرئاسي.

وعلى الرغم من كلمته في حفل تنصيبه في العشرين من أكتوبر الفائت، والتي دعا فيها الأمة والساسة والأحزاب إلى التحلي بالشجاعة في مواجهة التحديات، بوضع مصلحة إندونيسيا فوق أي اعتبار وأي مصلحة أخرى.

فإن الكثيرين يتوقعون حدوث صدام، إنْ عاجلاً أو آجلاً، بين سوبيانتو (ثامن رئيس إندونيسي منتخب منذ انتهاء الديكتاتورية) وساسة البلاد فيما خص السياسات والتوجهات العامة.

ولعل مرد هذا التخوف يكمن في ما عرف عن الرجل من عناد وطموحات وسطوة، دعك من سجله القديم الحافل بالعنف ضد خصومه إبان توليه مناصب عسكرية رفيعة في عهد سوهارتو.

في أول خطاب له أمام البرلمان بعد تقديم طاقمه الوزاري الجديد، لوحظ تركيزه على عدة مسائل رئيسية مثل: الحاجة إلى سياسة خارجية نشطة، والعمل من أجل الاكتفاء الذاتي، وضرورة الحد من الفقر في المجتمع، علاوة على اعتماد حكم قوي لتحقيق برامج الحكومة.

لقد توقف مراقبون كثر أمام الجزئية الأخيرة قائلين إنها قد تقود إلى نوع من الاستبدادية والخروج عن النهج الديمقراطي الذي ميز عهود كل أسلافه منذ عام 1998.

خصوصاً وأنه قال بالحرف الواحد: «دعونا ندرك أن ديمقراطيتنا يجب أن تكون ديمقراطية فريدة من نوعها»، ناهيك عن أنه وصف الديمقراطية سابقاً بأنها عادة سيئة يصعب التخلص منها مثل التدخين.

فيما خص سياسات جاكرتا الخارجية، التي تميزت في عهد سلفه، بالهدوء والحذر والنأي بالنفس عن الصراعات الدولية إلا فيما ندر، يمكن القول إن سوبيانو سوف يلعب دوراً نشطاً على المسرح الدولي، من خلال تنشيط الدور الباهت لحركة عدم الانحياز.

والدفاع عن مصالح العالم الثالث باعتبار أن إندونيسيا جزء منه، ولعب دور الوسيط النزيه في الصراعات الدولية، ودعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية إسلامية يتعاطف معها مسلمو إندونيسيا (بالرغم من وجود تعاون عسكري صامت بين جاكرتا وتل أبيب)، ومحاولة الانضمام إلى مجموعة بريكس الاقتصادية.

ويتوقع أن يقود سوبيانتو بنفسه دفة الدبلوماسية الإندونيسية متجاوزاً بذلك وزير خارجيته الجديد ومساعده المقرب «سوجيونو» الذي ربما عهد إليه بحقيبة الخارجية كي يضمن عدم الاعتراض على قراراته، خصوصاً وأن سوجيونو ليس دبلوماسياً محترفاً وقليل الصلة بالعلاقات الخارجية، بعكس سلفه الوزيرة رينتو مارسودي.

وتأكيداً على ما سبق، لابد من الإشارة إلى هوس سوبيانتو بالشان الخارجي الذي بدا واضحاً إبان عمله وزيراً للدفاع في حكومة الرئيس المنتهية ولايته جوكو ويدودو، في الفترة ما بين عامي 2019 و2024.

فوقتذاك تكررت زياراته الخارجية وأشرف بنفسه على توثيق علاقات بلاده العسكرية مع واشنطن ووقع اتفاقية تعاون عسكري جديدة مع أستراليا. إلى ذلك اختار أن تكون أول زيارة خارجية له، بعد الإعلان عن فوزه بالرئاسة في أبريل الماضي، إلى الصين وليس إلى الولايات المتحدة أو أوروبا اللتين ينظر إليهما كقطبي توازن مع الصين في منطقة المحيطين الهادئ والهندي.

وعلى الرغم من أن سوبيانتو قام بعد ذلك بزيارة اليابان، إلا أن المراقبين فسروا منحه الأولوية للصين على أنه انعكاس لرغبته في التودد للصينيين من أجل استثماراتهم التنموية.

فإذا ما انتقلنا إلى موضوع الحد من الفقر، كأحد المواضيع الرئيسية ضمن أجندة سوبيانتو، نجد أنه كان على رأس برنامجه الانتخابي في السباق الرئاسي الأخير، حيث وعد الناخبين بتقديم وجبات مجانية لأطفال المدارس، ومساعدة غذائية للنساء الحوامل وبناء 3 ملايين منزل جديد.

والمشكلة هنا أن تنفيذ هذه الوعود يحتاج إلى تكاليف باهظة (مثلاً الوجبات المدرسية المجانية تكلف وحدها نحو 26 مليار دولار)، الأمر الذي يستدعي إجراء تخفيضات في الميزانيات المخصصة لمجالات أخرى أو السماح للدين العام بالارتفاع.

وقد لوحظ أن سوبيانتو أبقى على وزيرة المالية في حكومة سلفه السيدة «سري مولياني أندراواتي»، للاستفادة من خبرتها الطويلة والمتميزة في الشؤون المالية، لكنه في المقابل جدد تعيين ابن شقيقه في منصب نائب وزير المالية كي يكون عيناً له.

أما موضوع الاكتفاء الذاتي في الغذاء والطاقة، فقد وعد سوبيانتو بتحقيقه أيضاً من خلال برامج لتوسيع الرقعة الزراعية ودعم الأسر المنتجة وزيادة إنتاج الفحم والديزل الحيوي (من قصب السكر وزيت النخيل)، وهذه الطموحات تصطدم أيضاً بعقبة التمويل، علاوة على اصطدامها بالسياسة الخضراء والبيئة النظيفة.



*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي