من تابع الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية لا بد وأنه لم يفاجأ بفوز ترامب. فالحملة كانت تشير بوضوح للأسباب المتعددة التي أدت لهزيمة كامالا هاريس وفوز ترامب.

ويأتي على رأس قائمة تلك الأسباب الأوضاع الاقتصادية، الأولوية الأولى للناخب الأمريكي في أي انتخابات. فمع أزمة التضخم التي يعاني منها الأمريكيون كان يستحيل على كامالا هاريس، الشريكة بالكامل في الحكم كونها نائبة الرئيس، أن تفوز دون أن تنأى بنفسها عن بايدن.

ولو في السياسة الاقتصادية على الأقل، وهو ما لم تفعله هاريس. وهي أضاعت فرصة أتيحت لها حين سئلت عن الفارق بينها وبين بايدن. وقتها أجابت أنها لا تعرف فارقاً بينهما، ثم استطردت قائلة إن الفارق ربما أنها تنوي تعيين أحد الجمهوريين لمنصب وزاري.

أما السبب الثاني، فهو تركيز حملة هاريس على تحذير الناخبين مما أسمته بالخطر الداهم الذي يمثله ترامب على الديمقراطية الأمريكية. وهى جابت البلاد بصحبة جمهوريين مثل ليز تشيني للتأكيد على تلك الرسالة.

لكن كل استطلاعات الرأي الموثوقة طوال الحملة كانت تشير، المرة بعد الأخرى، إلى أن تلك الرسالة لا تمثل أولوية لغالبية الناخبين بل والأخطر، أنها لم يكن لها تأثير على الإطلاق على الناخبين المستقلين. المفارقة هنا، أن المرشحة التي تحذر من الخطر على الديمقراطية صارت مرشحة للحزب بعد انسحاب بايدن بالاختيار لا بالانتخاب.

أكثر من ذلك، ركزت حملة هاريس على انتقاد ترامب أكثر من حرصها على تقديم هاريس وبرنامجها للناخبين. بعبارة أخرى، كان الانشغال بترامب وذكره بمناسبة وبغير مناسبة حتى ولو بالسلب دعاية مجانية له، وكأن هاريس تقول للناخبين «يكفيكم أنني لست ترامب لتعطوني أصواتكم»!

أما السبب الثالث، فهو أن كامالا هاريس، بدلاً من أن تتخذ المواقف نفسها التي اتخذتها طوال عضويتها في مجلس الشيوخ والتي يتبناها أيضاً تيم والز، إذا بها تتخلى عنها لتتبنى مواقف أقرب لليمين. فهاريس حين اختارت تيم والز لمنصب نائب الرئيس بدت وكأنها تدرك أن المواقف التقدمية التي يتبناها بل وتبنتها هي شخصياً فيما سبق بخصوص مطالب العمال والأقليات، أي القاعدة الانتخابية لحزبها، تحظى بشعبية أكبر من المواقف الوسطية. لكن سرعان ما اتخذت هاريس مواقف أقرب لمواقف ترامب التقليدية من قضية الهجرة مثلاً.

وبدلاً من أن تلقي هاريس الضوء على التأثير المذهل لأموال كبار الأثرياء والمؤسسات العملاقة على العملية السياسية وتقدم برنامجاً لعلاج تلك المشكلة، تجاهلت القضية بالمطلق. وتغيير المواقف هذا سبب يكفي وحده لهزيمتها. فما الذي يدعو الناخب المستقل أو اليميني لاختيار بديل مخفف لترامب بدلاً من ترامب نفسه؟!

المفارقة هي أن المواقف التقدمية التي تخلت عنها يتناولها ترامب وإن بخطاب شعبوي دون أن يتبع ذلك بالضرورة فعل على الأرض، كما اتضح جلياً من فترة رئاسته الأولى. وتجاهل هاريس لتلك القضايا سمح لترامب بأن يعطى انطباعاً للناخبين بأنه الأكثر تمثيلاً لمصالحهم.

والحقيقة أن هناك سبباً آخر لا يقل أهمية وهو أن ترامب كان قد بدأ حملته لانتخابات 2024 فور تولي بايدن الرئاسة في يناير 2021. فهو طوال تلك السنوات سعى بقوة لاجتذاب ناخبين جدد.

فكانت النتيجة أنه نجح في زيادة نسبة مؤيديه وسط كل شرائح المجتمع تقريباً، بدءاً من السود ومروراً بالأمريكيين من أصول لاتينية ووصولاً للشباب. ومؤسسة هيريتيج، كبرى مراكز الفكر اليميني في واشنطن، ساهمت في استعداد ترامب لخوض الانتخابات عبر إعداد أجندة متكاملة من السياسات ليتبناها ترامب، في حملته الانتخابية، ثم فور توليه الرئاسة من جديد.

أما هاريس، فقد بدأت حملتها قبل أشهر معدودة من موعد الاقتراع العام، مما أحدث ارتباكاً في أوساط الحزب لم تفلح حملتها في احتوائه بسرعة.

أما وقد فاز ترامب، ورغم ما قدمته هاريس من برنامج متكامل، يخطئ من يتصور أنه قادر على التنبؤ بمواقف ترامب متى تولى الرئاسة. فلعل سنوات حكمه الأربع السابقة تكون قد أقنعت كل ذي عينين بأنه يستحيل توقع مواقف ترامب.

وإذا أضفنا لذلك أن الرجل يضع الولاء الشخصي فوق الكفاءة في اختيار فريقه، نصبح إزاء صيغة فردية، بامتياز، لاتخاذ القرار من جانب من يصعب توقع مواقفه.

كاتبة مصرية