منذ العصر الأموي حينما أنشد قيس بن الملوح «يقولون ليلى بالعراق مريضة/ ألا ليتني كنت الطبيب المداويا» والمطربون العرب لا يكفون عن مناداة الطبيب كي يشفي جراحهم من الهوى. فظهرت مثلاً أغاني: «يا طبيب الهوى» لليمني أحمد السنيدار، وجس الطبيب لي نبضي للسوري فهد بلان، و«يا الطبيب المداوي» للسعودي عيسى الأحسائي، و«يا طبيب داويني» للمصري أحمد سعد، و«أعيش في ظلمة صبحي وأنت صباحي/ أنت طبيبي أموت بجراحي» للسوداني صلاح ابن البادية، و«كل أطباء القلب قالولي» لوردة الجزائرية، وغيرها كثير. أما في العراق، فإن أشهر هذه النوعية من الأغاني هي أغنية «دكتور» التي لحنها وغناها في ستينيات القرن الماضي الفنان الراحل عبدالجبار الدراجي من كلمات مواطنه الشاعر عدنان هاشم السوداني، والتي يقول مطلعها:

«دكتور جرحي الاولي عوفه (اتركه) وجرح الجديد عيونك اتشوفه

اكبر من الاول وبمدته اطول

جرحين صارن بالقلب والروح مكـلوفه

جرحي الاول بالقلب من يوم عشرتنا

والثاني آه اشقد صعب واسبابه فرقتنا

دكتور هالاسباب منها القلب ما طاب

وللناس قصتي بالهوى أصبحت مكـشوفه».

لكن الكاتب العراقي المهاجر سالم إيليا في مقال نشره في 24 نوفمبر 2017، ذهب إلى القول إن أغنية «دكتور» حملت معنى مبطناً غير الذي يبدو للمتلقي. حيث تطرق إلى ما أشيع وقت ظهورها من أنها تحمل رسالة تحذير سياسية لتنبيه رئيس البلاد آنذاك (الزعيم عبدالكريم قاسم) بالأخطار المحيطة به وبنظامه.

ما يهمنا هنا هو أن هذه الأغنية اشتهرت وما زالت خالدة مخلدة في ذاكرة العراقيين ومحبي الغناء العراقي من العرب، إلى جانب مجموعة الأغاني الجميلة التي أداها الدراجي خلال مسيرته الفنية التي بدأت عام 1959 بأغنية «تانيني صحت عمي يا جمال» ثم «ما ريد إلمايريدون» فأغنية «شاقول للناس لو عنك يسألوني»، و«علمتني ايشلون أحبك»، وانتهت برحيله في أحد مشافي الأردن عام 2015.

ولعل ما ميز الدراجي عن غيره من مجايليه كحضيري بوعزيز وناظم الغزالي وداخل حسن، هو استحداثه نوعاً جديداً من الغناء يجمع ما بين الريفي والمديني، فصارت أعماله مقبولة عند الجميع. أما الذي جعل كل العراقيين من مختلف المناطق والطوائف يحبونه ولا يختلفون عليه فهو حياته التي تنقل فيها من جنوب العراق إلى شماله، مروراً بوسطه. فالرجل تعود جذوره العائلية إلى مدينة العمارة بجنوب العراق، وولد في جانب الكرخ من العاصمة بغداد في عام 1936 ابناً لموظف حكومي، ونشأ وترعرع في مدينة كركوك بشمال العراق بسبب وظيفة والده المتنقلة وانتداباته.

وهناك ميزة أخرى لصاحبنا أنه لحن لنفسه ولغيره (كعبد صاحب شراد وعفيفة إسكندر) أروع الألحان، رغم أنه لم يدخل أي معهد موسيقي ولم يتلق أي درس من دروس الموسيقى والعزف، وكان هذا مبعث استغراب واندهاش كبار الموسيقيين الذين امتحنوه قبل قبوله مطرباً في الإذاعة العراقية سنة 1959، حيث رد عليهم حينما سألوه عن المعهد الموسيقي الذي تخرج منه بقوله: «تخرجت من مدرسة الحب»، شارحاً أنه أحب الغناء والموسيقى كثيراً، فقرأ عنهما وبحث في مصادرهما وركض خلف روائعهما في كل مكان، مضيفاً: «اللي يحب يا اساتذتي يركض وراء محبوبته»، فصفقوا له وقبلوه في الإذاعة دون تردد.

الدراجي، من ناحية أخرى، أحد الفنانين العراقيين القلائل الذين منحوا ألحانهم لمطربين من مصر، فقد لحن للمطرب المصري إسماعيل شبانة (شقيق عبدالحليم حافظ الأكبر) أغنية «نازل يا قطار الشوق» التي أعاد غناءها بصوته. أما فايزة أحمد فقد أعجبت بأغنيته «خي لا تسد الباب» من ألحان رضا علي فأعادت غناءها.

ونختتم بما كتبه الكاتب العراقي كاظم لازم في جريدة الصباح العراقية إن الدراجي غنى إلى جانب عبدالحليم حافظ في حفلة فنية أقيمت بدمشق سنة 1967، وإن الأول أصيب بالدهشة وهو يستمع إلى غناء الثاني، فقبله واحتضنه بعد الحفل، لتخرج الصحف السورية في اليوم التالي قائلة: «عبدالحليم يقبل رأس الفن العراقي».