اعتنى الإسلام بالعقل عناية بالغة، وجعله مناط التكليف، وموضعاً للتشريف، وجوهراً للتدبر والتأمل والتفكير، ومعدناً للتطور وعمارة الأرض بالخيرات والفضائل، وجعل المحافظة عليه من المقاصد الضرورية الكبرى، التي جاءت الشريعة لتحقيقها، ومن صور المحافظة على العقل حمايته من الضرر الفكري والثقافة السلبية الضارة، التي تحرف الإنسان عن المسارات الصحيحة في تعامله مع ربه، وتعامله مع نفسه وأسرته ومجتمعه ووطنه، والناس أجمعين.

ويتأكد ذلك في هذا العصر الحديث، الذي يتميز بسرعة انتشار المعلومة وتنوعها عبر شبكات الإنترنت والأجهزة الذكية، مع قلة القيود والضوابط، التي تراعي صحة هذه المعلومات وسلامة المحتويات، ما يجعل المتلقي أمام تحدٍ كبير، يتمثل في كيفية الاستغلال الأمثل لهذه الثورة المعلوماتية بشكل إيجابي، والتمييز بين المعلومات الصحيحة والمغلوطة، والأخبار الموثوقة والزائفة، وتطوير قدراته ومهاراته التي تمكنه من النقد وحسن الانتقاء، وفق منهجية علمية متينة.

وقد نبه العلماء إلى ذلك منذ القديم، ووضعوا منهجية مميزة للتنمية المعرفية، والتي ترتقي بالفرد وتصونه عن الانحرافات الفكرية كالتطرف والغلو وغير ذلك، ووصفوا من لا يبالي بسلامة المحتوى وصحة المعلومات بأنه «حاطب ليل»، وهو مثل يُضرب لمن لا يبالي بالجيد والرديء من الأخبار والمعلومات، ويسير على غير هدى ونور في تلقي المعرفة، وذلك لأن حاطب الليل يمشي في الظلام، ويجمع ما يصادفه من حطب دون تمييز بين الجيد منه والرديء، ودون احتراز عما قد يلدغه من أفاع أو عقارب أو حشرات مؤذية مندسة، فيضر بنفسه، وقد تصيبه هذه الأفاعي والعقارب بسموم قاتلة تفتك به، وهكذا الإنسان الذي يأخذ المعلومات دون ضوابط ولا معايير، ويورد عقله مستنقعات آسنة بدلاً من المعين الزلال، فقد يصاب عقله وتفكيره في مقتل، وقد تتكاثر عليه الأفكار الضارة حتى تؤثر سلباً في أخلاقه وسلوكه ومنهجه في الحياة، فيصبح عنصراً هداماً لنفسه ولغيره.

إن الإنسان العاقل يحرص كل الحرص على الثقافة الصحيحة والمنهجية المستنيرة في تلقي المعلومات والأخبار المتنوعة، فلا يقصد المجاهيل سواء في مواقع التواصل أو غيرها، ولا يعتمد ما ينشرونه، وخاصة ما تفوح منه روائح التحريض والثقافة السلبية، فإن الأخذ عنهم سبب للضرر الكبير، وخاصة أصحاب الحسابات الوهمية، ولا يغتر العاقل منهم برونق العبارات، وبراعة الصياغات، فلا يفيد ذلك إذا كان المعنى فاسداً والمقصود باطلاً، وقد قال الله تعالى محذراً من ذلك: (يوحي بعضهم إلى بعض ‌زخرف ‌القول ‌غروراً)، والمراد من ذلك كل قول يُحسِّنه صاحبه ويُزيِّنه ويُجمِّله وهو باطل في نفسه، ليخدع به الناس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحراً»، وفيه بيان قوة الكلمة وسحرها، والحذر ممن يصور الباطل في صورة الحق بالعبارات المزخرفة والحجج المنمقة.

ولذلك فإن من واجب المتلقي أن يأخذ المعلومة من المصدر المعلوم، وأن يبتعد في المقابل عن الحسابات الوهمية والمواقع المجهولة، ومع ذلك فإن هذا لا يكفي حتى يكون المصدر المعلوم كذلك موثوقاً صادقاً فيما ينقل أهلاً لتلقي المعلومة منه، فعلى سبيل المثال ليس كل من وُضع بجانب حسابه شارة التوثيق الزرقاء في منصة «إكس» أهلاً لتلقي المعرفة عنه، فقد يكون مجهول الأهلية، وقد يكون صاحب فكر مسموم أو توجه مغرض، يحرض على الأوطان، وينشر معلومات ما أنزل الله بها من سلطان، ويتأكد هذا النهج في المعلومات التخصصية كالمعلومات الدينية والطبية وغيرها، فلا يكفي أن يكون الشخص موثوقاً صادقاً فقط، فقد ينقل ما يظنه صحيحاً ولا يكون كذلك لعدم معرفته الكافية بمثل هذه المعلومات، بل ينبغي أن يكون كذلك متخصصاً عارفاً تمام المعرفة بالمعلومات التي ينشرها، فإن ذلك كله يؤدي إلى دقة المعلومات وصحة الأخبار، ويصون عن الأخطاء والأضرار.

وقد حرصت دولة الإمارات على تعزيز دعائم المعرفة والثقافة الإيجابية في المجتمع، ومواكبة التحديات المعاصرة التي تواجه الفرد في مجال التلقي، لبناء مجتمع معرفي صلب، وسنت العديد من القوانين التي تجرم المحتويات الضارة كالمحتويات، التي تدعو للتمييز والكراهية والإساءة وغيرها، وأنشأت مؤسسات تخصصية للإفتاء الشرعي وغيره، ليتسنى للجميع أخذ المعلومة الصحيحة والخبر الموثوق من المنبع الأصيل، فيضيء المجتمع كمنارة معرفية مشرقة، تنطلق لبناء الحضارة والتنمية، وفق أسس متينة راسخة.