اتفقنا أن التراث يلعب دوراً في تحقيق التواصل بين الأجيال، وكيف يمكنه توفير إطار للحوار بين الماضي والحاضر، ونعرف أن التراث هو الذي ربطنا بماضينا وكان الجسر الحقيقي الذي أحضر لنا حياة الأسلاف والأجداد ماثلة بين يدينا فتعلمنا منها قيمنا وأخلاقنا وعاداتنا ورأينا كنوز الماضي تتجسد في حواضرنا المتعددة وهويتنا العميقة.

بل ورثنا من الكثير من المهن والحرف التقليدية التي بدأها أسلافنا وتوارثها الأجداد والآباء، فوصلتنا متينة وجميلة ومنتجة ومبدعة وتعلمنا منها الكثير في حياتنا.

وقد قابلت خلال السنوات الماضية عدداً من الذين عملوا مع جدي حسين بن ناصر آل لوتاه، رحمه الله، في تجارة اللؤلؤ أو مهن البحر، وقابلت أبناءهم وأحفادهم وكلهم يتحدثون كيف كان جدي، رحمه الله، مهتماً بتوريث تلك المهن إلى كل أبناء الإمارات، كانوا يتحدثون بشغف عن الإرث الذي تركه، ليس فقط في أدوات الغوص أو مهارات التجارة، بل في القيم التي أصبحت جزءاً من هويتهم. أحدهم قال لي:

تعلمنا من جدك أن اللؤلؤ ليس مجرد جوهرة؛ إنه رمز للأمل والجهد والعمل الجماعي».

ما يلفت الانتباه، أن مراجعة اهتمامات وتجربة حسين بن ناصر لم تنحصر قط في المهن والحرف اليدوية، بل كان للارتداد إلى الصحراء، وقفة تاريخية أعادت تشكيل هوية المجتمع آنذاك.

فقد عُرف كشاعر يكتب أجمل قصائد الشعر الشعبي الإماراتي، وينهل من تراثها الغني، ومن واقعها الحقيقي، كقصيدة «هوا عيمان الشهيرة»، فكان معظم جيله يكتبون الشعر، وكان لهم الدور الأبرز في الحفاظ على متانة الشعر الشعبي الإماراتي، وانعكست هذه القصائد على الأغاني.

فنقلت نقلة نوعية بحيث تحولت إلى موسيقى، ومن ثم فإن الموسيقى واحدة من أدوات ترسيخ التراث، وبناءً على ذلك خرجت أجيال من المطربين الشعبيين المواطنين الذين يرددون أشعار أسلافهم، ليس فقط حسين بن ناصر آل لوتاه، بل أغلب شعراء الإمارات، مثل حمد بن خليفة بوشهاب، وراشد بن سالم الخضر، وربيع بن ياقوت، وراشد العصري، وراشد بن ثاني الشامسي.

وسيف بن عبد الرحمن الشاعر، وسيف بن سليمان، ومحمد سعيد الجراح، وسالم بن حميد البحري، وسلطان الشاعر، وثاني بن رشيد، ومايد بن علي النعيم، وغيرهم الكثير، وهؤلاء الشعراء هم خزان الثقافة الشعبية والحصن المنيع لهويتنا الوطنية، فأصبح تراثنا من الشعر أيضاً، يعكس هوية إماراتية خاصة.

السؤال الذي يخطر ببالي الآن، ما هو الشيء الذي قمنا نحن حالياً بإعداده من تراثنا لنقله إلى الأجيال القادمة؟ وما هي المنظومات والسياسات والجهات المختصة التي تعمل على هندسة نقل التراث إلى الأجيال القادمة؟ ومع إننا نعلم أن وزارة الثقافة تقوم بعمل كبير في مجال التراث.

وكذلك المؤسسات مثل معهد الشارقة للتراث، ومركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، ونادي تراث الإمارات، وغيرها الكثير، ولكننا لم نحصل بعد على رؤية شاملة واحدة تجيب عن أسئلتنا وتخوفاتنا حول المستقبل البعيد، ولنقل مثلاً بعد خمسين أو مائة عام؟!

يؤكد «زيجمونت باومان» في نظريته عن «الحداثة السائلة» أن الهويات الثقافية أصبحت أكثر هشاشة في ظل العولمة، ويشير «أولريش بيك» إلى أن التكنولوجيا يمكن أن تكون سلاحاً ذا حدين: فهي من جهة تتيح فرصاً جديدة لحفظ التراث ونقله بطرق مبتكرة.

ومن جهة أخرى تهدد بطمس العناصر التقليدية من خلال تحويلها إلى محتوى رقمي قد يفقد قيمته الروحية، كيف يمكننا ضمان استمرار هذا الجسر في ظل التحديات التي تفرضها العولمة والرقمنة والتغيرات الاجتماعية الثقافية التي تنذر بأن المجتمعات عموماً قد بدأت تفقد أصالتها؟

نحتاج سياسات واستراتيجيات تنتج مبادرات متكاملة يمكنها أن تساعدنا في التأكد من أننا قادرين على نقل تراثنا العريق إلى الأجيال القادمة بأمانة، وأن لا ننظر للموضوع وكأنه مجرد موضوع نخبوي للتسلية والترفيه، وكل يلقي بالمسؤولية على الآخر.

بل أن تحدد هذه السياسات واجبات ومسؤوليات كل فرد ومؤسسة وهيئة في المجتمع حيال ما يقوم به تجاه التراث بكل أشكاله وأنواعه، كما نفعل مثلاً بالموضوع البيئي والتغيير المناخي، إلى حد ما، أي أن يأخذ المساحة نفسها من الاهتمام على كل المستويات، بحيث تصبح منظومة تحقق «استدامة التراث»، وبالتالي تضمن وصوله إلى الأجيال القادمة كلها بالروح والرؤية والعمق ذاتها.

قد نحتاج أيضاً رؤية شاملة تتجاوز الجهود الفردية والمؤسسية. هذه الرؤية يجب أن تكون مستوحاة من فكرة فلسفية (أناقشها في مقالاتي أسبوعياً في صحيفة البيان) ترى التراث يلعب دوراً أساسياً في تشكيل هويتنا الأصيلة.

ولكنه يواجه حالياً المزيد من التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي قد تعرقل حمايته وصيانته وتحديثه ونقله سليماً إلى الأجيال القادمة وعلى رأسها التطور التكنولوجي الهائل والمتسارع من رقمنة وذكاء اصطناعي استباح الخصوصية الثقافية، فبدأت تتلاشى معالمها الحقيقية.

لست ضد التطور التكنولوجي على الإطلاق، بل سبق وطالبت برقمنة التراث والاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي لإظهار تراثنا العريق والترويج له عالمياً، وما زلت أطالب بدعم البحث والتعليم والتراث الرقمي، وتشجع الابتكار في تقديم التراث بطرق تلهم الأجيال الجديدة.

ولكنني في الوقت ذاته، لا أرى أية إشارات بأن جيلنا وجيل أبنائنا، يفكرون كثيراً في نقل التراث إلى الأجيال في المستقبل، لذلك أدعو إلى نقاش وعصف ذهني على مستوى كبير، من خلال منتدى أو مؤتمر يطرح هذه التساؤلات ويجيب عنها جميعاً.