في 27 سبتمبر الفائت جرت في اليابان معركة حامية الوطيس للفوز بزعامة الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم كان طرفاها «شيجيرو إيشيبا» وزير الدفاع الأسبق والسياسي اليميني المتشدد «ساناي تاكايشي».
أسفرت الجولة الأولى عن حلول إيشيبا في المركز الثاني، لكن الأخير هزم منافسه في الجولة الثانية، ليصبح زعمياً للحزب الذي حكم اليابان طوال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية باستثناء فترات قصيرة.
يخطئ الساسة أحياناً في قراءة المشهدين السياسي والاقتصادي في بلدانهم، لأسباب مختلفة، فيعتقدون أن الدعوة إلى انتخابات مبكرة كفيلة بتعزيز مواقعهم في السلطة من خلال حصد المزيد من المقاعد لأحزابهم في البرلمان.
وهذا تحديداً ما حدث مع إيشيبا الذي ما أن تولى زعامة بلاده حتى دعا إلى إجراء انتخابات عامة في 27 أكتوبر الفائت أي قبل موعدها المقرر بنحو عام. حدث هذا، على الرغم مما عرف عن الرجل البالغ من العمر 67 عاماً من خبرة سياسية وعقل راجح وقدر كبير من المهابة والجدية وسعة الإطلاع.
نعم. لقد ارتكب إيشيبا خطأ فادحاً بالدعوة إلى انتخابات مبكرة. فقد ظن أنه يحظى بثقة واستحسان جمهور الناخبين لأنه مختلف عن سلفه «فوميو كيشيدا» وغيره من رموز الحزب الحاكم، وبالتالي سوف يصوت اليابانيون بكثافة لتعزيز موقع الحزب فقط لأنه على رأس قيادته.
لكنه خلال شهر من توليه رئاسة الحزب والحكومة خلفاً لكيشيدا ارتكب بعض الأخطاء التي أضعفت من مكانته وشعبيته ومنها على سبيل المثال تكرار ما فعله سلفه أي منح الأولوية للسياسة الخارجية على حساب الإصلاحات الاقتصادية.
وذلك بتأييده فكرة إنشاء «حلف شمال أطلسي آسيوي» من أجل إقامة حصن ضد الصين وسياساتها في منطقتي المحيطين الهادئ والهندي وامتداداتهما.
على عكس توقعاته المتفائلة بحصد المزيد من المقاعد للحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم، جاءت نتائج انتخابات 27 أكتوبر 2024 مخيبة لآماله إذ خسر حزبه وشريكه في الحكم المتمثل بحزب «كوميتو» الصغير أغلبيته البرلمانية.
الأمر الذي أحدث زلزالاً وفوضى سياسية غير متوقعين، بل وسجل في تاريخ الحزب العتيد خسارته الثالثة للأغلبية البرلمانية منذ عام 1955، خصوصاً وأن هذه الإهانة للحزب، الذي اعتبر على الدوام الخيار المفضل للناخبين اليابانيين، جاءت في وقت عصيب تواجه فيه الأمة اليابانية مجموعة من التحديات والرياح المعاكسة الداخلية والخارجية.
فداخلياً تشهد اليابان تباطؤ معدلات النمو، وتجاوز التضخم لمعدلات الأجور، وانخفاض الصادرات بسبب تباطؤ النمو في الصين (تعد الصين أكبر شريك تجاري لليابان على الإطلاق) وصورة ضبابية عما إذا كان بنك اليابان سيواصل رفع أسعار الفائدة.
وخارجياً تواجه البلاد استفزازات كوريا الشمالية، وتعاظم القوة العسكرية للصين المجاورة، ومعهما حروب وضغوط تجارية متوقعة من الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب.
غير أن إيشيبا بدا محظوظاً، رغم الإهانة التي تعرض لها هو وحزبه.
ذلك أن الخلافات والانقسامات الشديدة في الرؤى والأجندات بين أحزاب المعارضة حالت دون اتفاقها على الائتلاف لتشكيل حكومة بديلة لحكومة الحزب الحاكم.
وعليه فقد عقد البرلمان جلسة خاصة في 28 أكتوبر المنصرم لاختيار رئيس الوزراء الجديد، فتغلب إيشيبا على زعيم المعارضة «يوشيهيكو نودا» بحصوله على 221 صوتاً مقابل 160، ليستمر في منصبه زعيماً للبلاد لفترة قد تطول أو تقصر.
ونقول هذا لأن الضرر قد وقع، ومعه دخلت اليابان مرحلة عدم اليقين السياسي، ناهيك عن أن إيشيبا لن يستطيع تنفيذ سياساته وتطلعات حزبه وقيادة البلاد إلى حيثما يريد والبدء في الإصلاحات الاقتصادية الملحة بحرية، نظراً لافتقاده التفويض الشعبي والدعم البرلماني القوي.
ويتوقع المراقبون ألا تطول فترة بقائه في السلطة، وذلك استناداً إلى حقيقة أن معظم رؤساء الحكومات اليابانية المتعاقبة لم يستمروا في منصبهم القيادي أكثر من عام أو عامين، أو 3 أعوام على أبعد تقدير، باستثناء «شينزو أبي» و«إيساكو ساتو» (8 أعوام لكل منهما)، و«جونيتشيرو كايزومي» (5 أعوام).
وجملة القول إن هشاشة الوضع الذي يمر به إيشيبا وحزبه تلقي بظلال من الشك على قدرة اليابان لجهة الحفاظ على سياسة اقتصادية متماسكة، والاستجابة للتحولات الاقتصادية المفاجئة، وتوفير البيئة المستقرة التي يحتاجها المستثمرون.
ومما لا شك فيه أن هذا بدوره يعطل الإصلاح الضريبي والسياسات التجارية البناءة والحوافز المالية، وكلها أدوات حاسمة تؤثر على ثقة رجال الأعمال وتدفقات رأس المال. ومن ناحية أخرى فإن هشاشة الوضع السياسي يعني جموداً في حل قضية الشيخوخة السكانية التي تعاني منها اليابان والتي تسببت في إبطاء النمو وتدفق الاستثمارات الأجنبية.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي