تصدر محتويات ومقولات هذا الكتاب عن الخبرة الميدانية والمعايشة المباشرة التي أتيحت للمؤلف، بحكم مهنته وممارساته الصحافية في أنحاء شتى من القارة الإفريقية.
وإذ يتابع الكتاب الظروف والملابسات التي واكبت نشأة جماعة بوكو حرام وجذورها الأصلية في إقليم الشمال من دولة نيجيريا ومعظم سكانه من المسلمين، فإن المؤلف يتعامل مع ظهور المنظمة المذكورة، لا من جانب سلوكياتها المتطرفة، التي باتت توصم بالإرهاب، كما هو معروف، ولكن أيضاً من منظور أوسع وأعمق، حيث يعرض وسط هذه الملابسات إلى ما يعانيه أهل هذا الشمال النيجيري المسلم من أحوال الفقر المدقع والتخلف الشديد اقتصادياً وثقافياً، مقارنة في ذلك مع الأحوال الأيسر التي ما برحت تسود في الأصقاع الجنوبية من البلد الإفريقي المذكور ومعظم سكانها، كما يضيف الكتاب، يدينون بالمسيحية.
ثم تزداد المشكلة حدّة وتعمقاً حين يعرض الكتاب أيضاً إلى حقيقة أن نيجيريا مازالت أكبر بلد في أفريقيا من حيث عدد السكان، فيما تعد كذلك أكبر منتج للبترول على صعيد القارة السمراء، وهو ما يشكل تناقضاً بين موارد البلد المذكور وبين تردي أحوال سكانه وخاصة في ولايات الشمال، كما ألمحنا، وهو تناقض فسّره الكتاب أيضاً حين عرض إلى آفات الفساد السياسي واقتصاد المحاسيب، مما شكّل مرتعاً خصباً لقيام واستشراء ظاهرة التنظيمات الإرهابية.
في زمن غابر كانوا يسمونها حروباً مقدسة، إذ كانت في عصور أو قرون سبقت في تاريخ البشر، معارك يخوضها البشر دفاعاً عن عقائدهم الدينية وانتصاراً لما كانوا يعتنقون. أما في زماننا الراهن فقد اصطلح الناس على وصفها بأنها حروب غير مقدسة، على الرغم من أنها ترفع رايات تحمل شعارات دينية وتلوك أفكاراً ودعوات تحاول الانتساب إلى الدين. يصدق هذا، على سبيل المثال، على الجماعة المنتمية إلى أفريقيا السمراء، جنوبي الصحراء الكبرى التي لاتزال تحمل العنوان التالي: بوكو حرام، وترجمة هذا الاسم الإفريقي تنصرف إلى معنى أن التعليم الأجنبي حرام.
ولقد أصبحت القيم الإنسانية المعاصرة تكرس مبدأ حرية الاعتقاد، بمعنى أن لكل إنسان في زماننا حرية اختيار ديانته، وحرية ممارسة شعائر وطقوس وفرائض تلك الديانة، وهو ما تكفله كل الصكوك القانونية الدولية، وبالذات ما تنص عليه المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
شهادات ميدانية حية
يبذل المؤلف قصارى جهده في تصورنا لكي يستقي عبر فصول الكتاب شهادات من أفواه مواطني نيجيريا العاديين أنفسهم، فإذا بهم يعبرون كما يوضح الكتاب عن حال من الأسي الممزوج برهبة القنوط، إذ يتصورون أنفسهم محصورين بين عنف الإرهابيين وبين عنف قوات الأمن الحكومية ذاتها.
من هنا يطالع القارئ حكايات مفعمة بالأسى والكآبة عن أفدح معاناة البشر في تلك الربوع الإفريقية: ضابط شرطة أصابته هجمات الإرهابيين بالشلل، فإذا به وقد تخلى عنه الجميع، حيث تركوه وحيداً يواجه الكارثة التي لحقت به.
نساء فقدن الزوج والعائل والسَنَد بسبب غارات الإرهاب المتشح بمسوح الدين، وقد شنّوها على أكواخ الفقراء التعساء في قرى إفريقية أكثر تعاسة وأشد حرماناً.
عناصر بوكو حرام التي عيّنت نفسها مراقبين ومندوبين، بل وأقرب إلى الحاكمين في تلك الربوع من أرياف إفريقيا، مدججة في ذلك بشتى أنواع الأسلحة بدءاً من السيف إلى المدفع والقنبلة.
ثم تتفاقم صنوف المعاناة حين يضاف إليها والعهدة على المؤلف البريطاني طبعاً آفة الفساد التي ما برحت تجتاح ربوع إفريقيا، وهو ما حرم بلداً له اعتباره مثل نيجيريا من إمكاناته وثرواته، برغم أنها أكبر منتج للنفط على مستوى إفريقيا السمراء، ومن ثم فقد جعلها أرضاً خصبة للتطرف والإرهاب.
والمعنى الذي يومئ إليه المؤلف هو أن سلوكيات الفساد، وما يرتبط بها من ظاهرة آفة اقتصاد المحاسيب، لاتزال تشكل واحداً من أهم العوامل التي تؤصل لوجود ونشاط الدعوات والمنظمات الإرهابية، خاصة وأن تلك السلوكيات تؤدي بحكم التعريف إلى تبديد إمكانيات الثروة القومية، وربما تجعل من أجيال الشباب لقمة سائغة ومستضعفة بحكم الفقر والمسغبة وانقطاع الأمل في يد ممارسي التجنيد لحساب منظومات الإرهاب.
فما بالنا وهذه المنظومات لا تتورع، كما في حالة بوكو حرام وما في حكمها من جماعات وتكوينات، عن استغلال الشعار الديني من ناحية أو إثارة النعرات الداخلية الطبقية حين تشتق اسمها كما هو معروف، من معنى تحريم التعليم الأجنبي وهو الشعار الذي يعبّر في ظاهره عن رفض ثقافي للنفوذ الخارجي، ولكنه، كما يوضح مؤلف الكتاب، ينطوي في دلالته الطبقية على الإشارة إلى أن هذا التعليم الأجنبي هو حكر على الموسرين والأثرياء ممن درجوا على الاستعلاء فوق طبقات الفقراء والمعوزين.
الأبعاد الطبقية نفسها يضيف المؤلف موضحاً، إنما تتجسد في تبادل مشاعر من الحقد الطبقي بين سكان الشمال النيجيري، وأغلبهم مسلمون ويعيشون في معظمهم حياة بائسة بكل معنى، وبين سكان الجنوب في البلد المذكور، وأغلبهم مسيحيون وحياتهم أيسر نسبياً من حياة الشمال.
اختلاف الجنوب والشمال
هذا المنظور من التحليل الطبقي يفضي إلى القول بأن الجنوب لايزال يفوق الشمال في البلد الواحد من ناحية الثروة والخدمات والتعليم وأساليب المعيشة بشكل عام، وتلك جوانب لا ينبغي إغفالها، كما ينّبه مؤلف هذا الكتاب عند تحليل جذور بوكو حرام، خاصة وأن هذه الظاهرة من التباين في حالتي الشمال المسلم والجنوب غير المسلم ليست وليدة المرحلة الراهنة، ولكنها ترجع إلى قائمة من العوامل التاريخية والثقافية وغيرها.
ومن عجب أن بدايات بوكو حرام كما يؤرخ لها الكتاب ترجع فقط إلى عام 2003 وجاءت أيامها على شكل تمرد ضد السلطات النيجيرية قامت به ثلة من ذوي التوجهات الإسلاموية التي تجمعت في منطقة تقع شمال شرقي نيجيريا، تحمل اسم كاناما.
ثم عمد زعيم هذه المجموعة، وهو محمد يوسف، إلى طرح صيغة اصطنعها لتفسير أحوال التخلف التي تعانيها ربوع الشمال المسلم في نيجيريا، موضحاً أن أركان الحقبة الاستعمارية البريطانية هم الذين فرضوا على الشمال، وعلى البلد في عمومه، نهجاً غربياً يتنافى مع تعاليم الإسلام ومصالح المسلمين، مستعيناً في ذلك بتفسير أصولي، كما يصفه المؤلف، لبعض آيات من القرآن الكريم.
وفي مدينة مايدو غوري أنشأ محمد يوسف مسجده وبدأت دعوته تنتشر بعنوانها الذي يومئ كما أسلفنا، وفي لغة الهاوسا الواسعة الانتشار في تلك الأرجاء، إلى حظر ومن ثم تحريم التعليم الأجنبي، وإن كان هناك من خبراء الهاوسا من يضيف بأن كلمة »بوكو« إنما تشير أيضاً إلى معنى الغش الغربي وإن كانت الجماعة المذكورة قد أعلنت منذ ذلك الحين أنها تود أن يعرفها الناس على أن أفرادها هم الملتزمون بتعاليم النبي (عليه الصلاة والسلام) لنشر الدعوة والجهاد في سبيلها.
في عام 2009 بدأ اندلاع المواجهة بين بوكو حرام وسلطات أمن الدولة وانتهت مناوشات مصادمات الطرفين بالقبض على محمد يوسف ثم اغتياله، فضلاً عن سقوط 800 شخص فقدوا أرواحهم في تلك الأحداث.
ومن عجب أيضاً أن تعلن السلطات عن وفاة الرجل الثاني في الجماعة المذكورة ويحمل لقب شيكاو خلال أحداث 2009، ثم إذا بها تفاجأ بظهور المذكور في عام 2010 ليقود الجماعة إلى مرحلة جديدة وبالغة الخطورة حيث المهاجمات والاغتيالات والتفجيرات.
وجاء.. شيكاو
هنا يشير المؤلف بالذات إلى أبي بكر شيكاو، الذي لايزال مصيره محاطاً بهالات من الغموض، خاصة وأن بوكو حرام أقرب من حيث هيكلها في تشبيه المؤلف إلى تنظيم عنقودي لا يكاد أحد يعرف عدد أعضائه، بل وهم يتركون لكل عنقود حرية التصرف حسب ظروفه المحلية.
ثم يعرض المؤلف لمصادر تمويل المنظمة المذكورة موضحاً أنها تجمع ما بين مبالغ الفدية، المدفوعة لإطلاق سراح المختطفين، وبين ما يتم الحصول عليه من عمليات مهاجمة البنوك، ثم هناك أواصر التعاون مع منظمات مماثلة في الساحة الإفريقية وفي مقدمتها كما تذكر فصول الكتاب، منظمة القاعدة في المغرب الإسلامي (أكيم حسب اختصارها الإنجليزي). ماذا إذن عن أهم مطالبات بوكو حرام؟ ليس من الميسور للوهلة الأولى الحصول على إجابات شافية عن هذا السؤال. لكن الكتاب يحاول أن يجمل أهم المطالب في أمرين:
أولاً: الإفراج عن أعضاء بوكو حرام الذين مازالوا مودعين رهن السجون في نيجيريا.
ثانياً: إنشاء دولة إسلامية هناك.
هنا يذهب مؤلفنا إلى ما يلي: على الرغم من أن أبا بكر شيكاو تعهّد بالتضامن مع الجهاديين على المستوى العالمي، إلا أن مطالب بوكو حرام لاتزال، كما ألمحنا، محلية الطابع إلى حد واضح، خاصة وأن هذه الحركة المتمردة ما برحت كما أسلفنا، تتغذى على ما تعانيه جماهير السكان من أحوال الفقر واليأس والبطالة في شمالي نيجيريا المسلم على وجه الخصوص، بل إن قادة بوكو حرام ممن يمكنهم التفاوض على اتفاق سلام لصالح الجماعة المذكورة مازال وجودهم (أو العثور عليهم، أو تحديد هوياتهم) يشكل تحدياً بكل المعاني.
ثم تزيد الإشكالية تعقيداً ما يبدو من واقع سلوكيات السلطات النيجيرية، التي لم تجد مناصاً من إعلان حالة الطوارئ في مايو عام 2013 في ثلاث من ولايات الشمال الشرقي من نيجيريا وهي ولايات: بورنو + يوبي + أداماوا.
وكان طبيعياً أن تتبع السلطات العسكرية سلوكيات في التعامل مع الأوضاع والتعقيدات التي تكتنف المنطقة المذكورة بقدر لا يخفي من الخشونة، ومنها ما أصبح محل استنكار من جانب المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، وأن كان قيام المنظمة المتطرفة باختطاف 276 من فتيات المدارس قد أشعل الغضب في أوساط عالمية شتى، خاصة وقد عرضوا فيديو يُظهر زعيم المنظمة المذكورة وهو يصف هؤلاء الفتيات التعيسات بأنهن سبايا، وهو ما يؤكد ضرورة استنهاض همّة العالم، ليس فقط لمجرد تحرير الفتيات ومَنْ في حكمهن، ولكن أيضاً إلى التعامل مع المشكلة من منظور أوسع يقضي بإنصاف الشمال النيجيري وانتشاله من دوامة الفقر والتخلف على نحو ما نادت به مجلة »فورين أفيرز« في أحدث إصداراتها.
تجنيد أكثر العناصر تطرفاً
أفكار وشعارات وممارسات بوكو حرام لا تصدر عن المبادئ الإسلامية السمحاء، بل إنها تستخدم قوة السلاح الغاشم ضد من تقرر مهاجمتهم، فيما تعمل على تجنيد أشد العناصر تعصباً وتطرفاً بين صفوفها لكي تشن هجماتها الإرهابية التي ما برحت تروّع نيجيريا بالإضافة إلى جاراتها من أقطار وسط وغرب أفريقيا على السواء.
على أن مواجهة مثل هذه الآفات التي تحمل صفة الإرهاب إنما تبدأ كما يجمع المحللون السياسيون بمحاولة فهم الجماعات التي تسببت فيها، ومازالت تقترف جرائمها بكل ما تفضي إليه من نتائج فادحة لا يمكن وصفها إلا بأنها كارثية في أغلب الأحيان.
من هنا تأتي أهمية الكتاب الذي نعايشه هنا، وقد اختار له مؤلفه، الكاتب الإنجليزي مايكل سميث، العنوان التالي: بوكو حرام: في داخل حرب نيجيريا غير المقدسة.
ولعل أهم ميزة يتسم بها هذا الكتاب أن مؤلفه لا ينطلق من مجرد موقف فكري أو دراسة أكاديمية، ولكنه يتناول موضوع كتابنا من منظور المعايشة الواقعية الميدانية، بفضل سنوات خبرته المباشرة واقترابه اليومي الوثيق من دقائق ساحة الواقع في نيجيريا وفي إقليمها الإفريقي بشكل عام.
يبدأ الكتاب بعبارات مباشرة يؤكد فيها المؤلف أنه يتعامل مع بوكو حرام على أنها جماعة متطرفة إسلاموية (بمعنى أنها ترفع بداهة شعارات إسلامية ولكنها خلّفت ، من خلال تحركاتها وسلوكياتها، آلاف القتلى ولدرجة اهتزت إزاءها قوائم أكبر بلد في إفريقيا، فيما لاتزال تسبب صداعاً بالغ الخطورة في أنحاء العالم بأسره).
هنا يستدرك المؤلف موضحاً أن بوكو حرام لاتزال أقرب إلى السر الغامض، أو فلنقل الملتبس في نظر الكثيرين. وهو ما نذر المؤلف نفسه من خلال فصول كتابنا لكي يحاول تسليط الأضواء على المنظمة الإرهابية المذكورة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً : ثم تبدأ محاولته تلك بتقصّي النشأة الأولى للمنظمة المذكورة، منذ كانت تجسد مذهباً صغيراً يرفع الشعار الإسلامي في شمال شرقي نيجيريا كما استلم زمام قيادتها، كما يضيف المؤلف، واعظ أو خطيب له مواهب جاذبة بوجهه ذي الملامح الطفولية، أو هي صفات كاريزمية كما يتصورها مؤلفنا، فكان أن تحولت الجماعة المحدودة إلى »كيان الهيدرا« كما يقول المؤلف أيضاً، بمعنى الكيان ذي الأذرع العديدة والانتشار الواسع والقدرات المتنوعة، وكلها قدرات مدمرة في التحليل الأخير فأصبحت قادرة للأسف، على نشر الانتحاريين واختطاف فتيات المدارس وتدمير العديد من المرافق والبنى الأساسية.
تحريم التعليم
الأنماط السلوكية التي يتبعها حاملو اسم بوكو حرام، أو هذا الشعار، تنبئ أو تكاد تنبئ بأن التعليم، أي تعليم، ومن ثم العلم والمعارف، والفكر والتنوير، كل هذا في أعرافهم حرام في حرام. ويزيد من خطورة الشعار السابق أن الجماعة المذكورة تنطلق من أكبر دولة أفريقية، وهي نيجيريا، التي ما برحت تضم أقواماً يدينون بعقائد شتى ما بين الإسلام والمسيحية، بل وهناك من لايزالون يعتنقون أدياناً أقرب إلى تكريس الطبيعة بكل تجلياتها، سواء كانت تجليات الغابة أو السهل أو الصحراء.
المؤلف في سطور
الكاتب البريطاني مايكل سميث نشأ في العاصمة الإنجليزية، لندن. وحين احترف مهنة الصحافة اختار الكتابة على قضايا استكشاف المناطق القطبية . ثم تحّول إلى الاهتمام بقضايا الصناعة ، حيث عمل لدى صحيفة »الغارديان« مراسلاً معنياً بالصناعة ، وبعدها انتقل للعمل محرراً للتجارة والإعمال لدى صحيفة »أوبزرفر«.
و اختارته وكالات الأنباء العالمية مراسلاً خارجياً لها، حيث ترأس مكتب الوكالة الفرنسية في منطقة غرب إفريقيا على مدار الفترة 2010، 2013 مقيماً طوال الفترة المذكورة في نيجيريا، وهو ما أتاح له إحاطة ميدانية ودقيقة بظاهرة بوكو حرام،.
عدد الصفحات: 320 صفحة
تأليف: مايكل سميث
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مؤسسة تورس، لندن، 2015