يعتقد الكثير من الأميركيين أنهم يفهمون الحرب على الإرهاب، فبرأيهم هم يحاربون مجموعةً من المسلمين المتعصبين عديمي الرحمة. لذا فإنهم الأخيار، أليس كذلك؟

إلا إن الحرب على الإرهاب تتخطى بتعقيداتها مبدأ الخير مقابل الشر، ومقاتلو القاعدة هم بالفعل متطرفون عديمو الرحمة، لكن كيف حصلوا على تدريبهم المتطور وحضورهم على الساحة العالمية؟ لسوء الحظ، الجواب يكمن في التدريبات الأميركية السرية ونظام التأشيرات اللذين يعودان لمرحلة الحرب الباردة.

خلال الثمانينات، دربت الولايات المتحدة عدداً من المقاتلين الإسلاميين لمحاربة القوات السوفييتية في أفغانستان، وسمحت لهم فيما بعد بالانتقال من البلقان إلى العراق وليبيا وسوريا في الشرق الأوسط، عبر تأشيرات سفر أميركية قانونية. فعمد المحللون الاستراتيجيون لوكالة الاستخبارات الأميركية، ومن دون أن يدركوا، إلى تسليح وتحفيز رجال شكلوا نواة قادة تنظيم القاعدة.

وهكذا سقط آلاف الجنود والمدنيين الأميركيين ضحية الحرب على الإرهاب، ودفع أولئك الذين قضوا في أحداث 11 سبتمبر الثمن الأغلى. وتدعي الحكومة الأميركية أنها تقف ضد الإرهاب رافضةً الاعتراف بالدور الذي لعبته في تشكيل ما بات يعرف بالمستنقع الدولي القاتل.

كنت أعلم ما يحدث، فقد كنت هناك شخصياً، وأصدرت بنفسي التأشيرات، وعارضت بشدة الانتهاكات التي تضرب عرض الحائط القانون والتشريعات. وكانت النهاية شبيهة بخاتمة كل من يطلق صفارات إنذار من هذا النوع: الطرد المستتبع بالتعتيم وقطع التواصل والاتهامات، في حين لا تزال مسيرة التجنيد في ما أسميه الرابطة العربية الأفغانية، أو ما يعرفه البعض بتنظيم القاعدة و"داعش"، مستمرة.

يجسد الكتاب خطوة كان يجب أن تحصل منذ زمن، لكشف أعمال القتل، وجرائم الحرب، وانتهاك حقوق الإنسان، التي ارتكبتها الولايات المتحدة وأجهزة "استخباراتها"، التي شرعت، متذرعةً ب"أمنها القومي"، ومن خلال وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، ووكالة الأمن القومي إلى الانخراط في/أو تنظيم انقلابات، وزعزعة الأنظمة من حول العالم، سيما في منطقة الشرق الأوسط. فأزيحت الحكومات بدءاً من ليبيا إلى إيران، واغتيل السياسيون، وقتل المدنيون بمعرفة رئيس الولايات المتحدة والقسم التنفيذي، والهيئتين التشريعية والقضائية.

بعد أكثر من عشرين عاماً على تأزم التعامل مع موظفي وزارة الخارجية الأميركية المتلكئين المتلعثمين، والقضاة الفيدراليين الفاسدين، والمحامين الأميركيين اللاأخلاقيين، قررت، أخيراً، أن الوقت قد حان لسرد الحقيقة كاملةً، ولا شيء سوى الحقيقة، التي تفضح دعم الحكومة الأميركية للإرهاب، وارتباط ذلك بالصورة العالمية الأشمل.

يهدف هذا الكتاب إلى تسليط الضوء على الجوانب المظلمة والبشعة من وزارة الخارجية الأميركية، وصنيعتها "سي آي إيه"، ويوضح نوع الأشخاص الذين توظفهم الحكومة الأميركية لصياغة وتنفيذ سياساتها الخارجية الإمبريالية، سيما في إطار ما أسميه رابطة العرب الأفغان، أو الإرهابيين الذين تم تجنيدهم وتدريبهم من قبل الولايات المتحدة.

السياسة الكارثية

في النصف الأول من القرن العشرين كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة ترادف سجلاً حافلاً بالكوارث والأخطاء السياسية الجسيمة المؤدية إلى الحربين العالمية الأولى والثانية ومضاعفاتهما. أما النصف الثاني للقرن عينه، أي بعد "حرفنة" الخدمة الخارجية، ودمجها بوكالة الاستخبارات المركزية، باتت السياسة الخارجية الأميركية كارثة تامة، مسؤولة عن جلب الويلات على العالم.

كيف تسير الأمور حقاً، وكيف أوجد مسؤولو الحكومة الفاسدين عديمي الكفاءة والموظفين المهووسين بالمهنة الأجواء التي مهدت لنشوء الرابطة العربية الأفغانية؟

تبدأ فصول القصة مع وصولي إلى القنصلية الأميركية العامة في جدة بالسعودية برتبة موظف تأشيرات جديد، بعد أن قيل لي عند السؤال عن سبب اختياري لهذه الوظيفة إنهم يريدون شخصاً ناضجاً، في إجابة تركت لدي من الأسئلة أكثر ما أجابت على تساؤلي. وكانت مقتضيات الوظيفة تتطلب أن أغربل ما يزيد على مئة طلب تأشيرة في اليوم، وتصنيفها بين "قبول" و"رفض" وما تبين لاحقاً أنه يقع ضمن فئة "التأشيرات المجانية إلى عملاء (سي آي إيه)"، علماً أن أحداً في القنصلية لم يكلف نفسه عناء إبلاغي بهذه الفئة الخاصة من مقدمي الطلبات.

كانت وظيفة القنصلية تقتضي تأمين تأشيرات لعملاء "سي آي إيه"، أي للأجانب الذين يتم تجنيدهم من قبل موظفين أميركيين. وقد تعاونت كل من وزارة الخارجية و"سي آي إيه" على إرسال بيادق جاهلة إلى جدة، حيث كان يصدر ما يقارب 45 ألف طلب تأشيرة سنوياً.

وكان هؤلاء يحتفظون بوظائفهم إذا اكتفوا بإنجاز أعمالهم المكتبية كالآلات دون طرح أية أسئلة. أما إذا اتبعوا القوانين، وقاوموا الضغوطات غير القانونية للتغاضي عن أشخاص لا مبرر فعلي لذهابهم للولايات المتحدة، فهؤلاء كانوا يعتبرون "ضد النظام"، ويصرفون من وظائفهم بحجة عدم الكفاءة. وكان مكتب الأمن الدبلوماسي مكلفا بالمراقبة للحيلولة دون وقوع هذا النوع من المشكلات.

وقد أدركت لاحقاً للأسف، أن المتقدمين بطلبات التأشيرات كانوا مجندين لخوض الحرب في أفغانستان ضد الجيش السوفييتي. وقد أرسل أولئك المقاتلون المدربون في أميركا لاحقاً، إلى معارك أخرى، في العراق وليبيا وسوريا. وكانوا يعملون مع "سي آي إيه" ووزارة الخارجية لإزاحة الحكومات المعارضة لأميركا، في حين لم يعد سراً أن معظم العارفين بالأمور ما زالوا يرفضون الحديث عن المخطط.

ما كان يحصل مع "سي آي إيه" في جدة ويتم إخفاؤه عني، كان يتخطى مسألة التأشيرات المزورة إلى قضية أخطر. إنه برنامج التأشيرات للإرهابيين الذي أنشئ لتجنيد وتدريب القتلة، ومجرمي الحرب، ومنتهكي حقوق الإنسان، للقتال في أفغانستان، وأصبح هؤلاء فيما بعد نواة القاعدة، أو الرابطة الأفغانية العربية.

وكان الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر ومستشار الأمن القومي زبغنيو بريجينسكي قد أطلقا حملةً لجمع المأجورين وتوظيفهم في أعمال القتل والتفجير. لكن السؤال المطروح هو، هل كان يتم اختيار المجندين في واشنطن العاصمة، أو في مركز "سي آي إيه"، أو من قبل المركز أو القاعدة العسكرية؟ عام 2008، استعرض مسؤول الوكالة السابق مارك سايغمان، أحد الأشخاص الثلاثة الذين أداروا الحرب ضد السوفييت في أفغانستان، التهديد الإسلامي، ووصفه بالخطير لأن المقاتلين يخضعون "لتجنيد ذاتي من دون قيادة، وهم متصلون عالمياً عبر الإنترنت، ويفتقرون للهيكلية والمبادئ التنظيمية." وهكذا تولى سايغمان إدارة "برنامج أحادي مع المجاهدين الأفغان بين عامي 1987 و 1989 من إسلام آباد."

التستر على المجرمين

على غرار أحداث 11 سبتمبر، بقي برنامج التأشيرات للإرهابيين طي الكتمان والتستر والتعتيم الحكومي المتعمد، العاصي على الاختراق، في ظل رفض المعنيين التحدث بالأمر، وإنكار ارتكاب المساوئ، وامتناع هيئات التحقيق مثل مكتب التحقيق الفدرالي عن التحرك.

وذكرت مدونة واشنطن الإلكترونية أن أسامة بن لادن كان شريكاً لل"سي آي إيه" في تجنيد المواطنين العرب من كل دول الشرق الأوسط بما في ذلك مصر وسوريا ولبنان والمخيمات الفلسطينية إضافة إلى باكستان. وكان يتم تمويل العملية بجانب منها عبر تجارة المخدرات، حيث رفع المنتسبون لوكالة الاستخبارات معدلات إنتاجها، والمتاجرة بها في جنوب آسيا وخارجها.

وأجاب بريجينسكي رداً على سؤال طرحته عليه مجلة "لو نوفيل أوزرفاتور" الفرنسية حول ما إذا كان يشعر بالندم إزاء "تسليح إرهابيي المستقبل وتقديم الاستشارة لهم" بالنفي، وقال: " أيهما أكثر أهمية لتاريخ العالم، حركة طالبان، أم انهيار الاتحاد السوفييتي؟ بعض المسلمين المتحمسين أو تحرير أوروبا الوسطى في نهاية الحرب الباردة؟"

وأشارت شيريل برنارد من مؤسسة الأبحاث والتحليل، وزوجة زلماي خليل زاده الذي عمل سفيراً أميركياً في أفغانستان، والعراق والأمم المتحدة: " لقد اتخذنا قراراً مدروساً، وكنا نعتقد في البداية أنه ما من طريقة لهزيمة السوفييت. فاضطررنا لمجابهتهم بأسوأ أنواع المخبولين، ما أسفر عن الكثير من الأضرار الجانبية. كنا نعلم تحديداً من هم هؤلاء الناس، ونوع التنظيمات التي ينتمون إليها، ولم نكن نأبه. وسمحنا لهم أن يتخلصوا ويقتلوا كل القادة المعتدلين. ويــــعود غياب هؤلاء عن الساحة الأفغانية إلى أننا سمحنا للمجانين قتلهم جميعاً وتخلصنا من اليساريين والمعتدلين والوسطيين خلال الثمانينات فصاعداً."

أما في العراق، فقد استهدف المقاتلون الأحرار، عقب الغزو والاحتلال الأميركيين للبلاد، طائرات الهليكوبتر في مثال نموذجي على كيفية مساهمة مساعدات "سي آي إيه" للمتشددين الإسلاميين في الثمانينات في تصعيد حدة الإرهاب وانتشاره في العالم. وتم تلقين هذه الحيلة للعرب الأفغان المحاربين للسوفييت، الذين علموها بدورهم للصوماليين والعراقيين.

وأشار جورج كرايل، مراسل ومحرر أخبار محطة "سي بي إس" الأميركية إلى أنه ناهيك عن تعليم المقاتلين العرب الأفغان قصف الطائرات، تضمنت تدريبات "سي آي إيه" "نشر الإرهاب في الأرياف، مع تعليمات حول تفجير السيارات والجمال وتنفيذ الاغتيالات." ويعتبر المدرب علي محمد، وهو أحد إرهابيي القاعدة الرئيسيين، مخبراً لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومجنداً سابقاً في الجيش الأميركي و"سي آي إيه". وكان محمد قد جند ودرّب المقاتلين العرب في مركز الكفاح في بروكلين بنيويورك، الذي يشكل فرعاً من مكتب الخدمات الذي أسسه عبدالله عزام، معلم أسامة بن لادن، والمعروف بعلاقته الوثيقة ب" سي آي إيه".

وكتب الصحافي الأسترالي جون بيلجر يقول: "في عام 1986 خضع أكثر من مئة ألف مقاتل إسلامي للتدريب في باكستان في مخيمات أشرفت عليها (سي آي إيه) والمخابرات البريطانية لتدريب مقاتلي القاعدة وطالبان على صنع المتفجرات وغيرها."

وقد اعتمدت الولايات المتحدة مبدأ فرّق تسد في العراق، وسعت إلى بث الطائفية.

ويتسم التحرك الأميركي في سوريا، بأنه كان وما زال يهدف إلى تشريد السوريين وطمس حضارتهم وزعزعة استقرارهم وتدمير بلادهم.

 

غرور السياسيين الأميركيين ساهم بدمار الدول

ساهم غرور السياسيين الأميركيين، وجهل الناخبين بدمار دول أساسية في العالم، ناهيك عن إضعاف قدرة الولايات المتحدة على تحقيق أي هدف من دون اللجوء إلى العنف. لا تملك أميركا أدنى فكرةٍ عن مصالحها الخاصة، أو مصالح الدول الأخرى ولا تستطيع تصور أي طريقة للتوفيق بينها، ويعود ذلك إلى أن وزارة الخارجية نفسها لا تعلم ما هي تلك المصالح أو كيفية التوفيق بينها، فالدبلوماسية "ليست فن السماح للآخر القيام بالأمور على طريقتك" ولا هي "قول أكثر الأمور البغيضة بأعذب الطرق الممكنة"، بل "مسار من العلاقات بين الدول مبنيّ على الكياسة والمنطق ".

أما على الصعيد المادي فقد خسرت الولايات المتحدة في الحرب، التي دامت عقداً كاملاً في كل من أفغانستان والعراق ما يزيد على ستة تريليونات دولار، أي ما يعادل 75 ألف دولار لكل أسرة أميركية.

وقد حذر أصحاب أحد التقارير، التي تتحدث عن التكلفة المادية لأميركا، من أن تبعة القرارات المتخذة في حربي العراق وأفغانستان ستهيمن على مستقبل الميزانيات الاتحادية لعقود آتية.

وأشار أحد الصحافيين العارفين في حديث عن الخطوة التالية للولايات المتحدة بالقول إنه طالما ستكون كل من أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا دولاً منهارة في المستقبل المنظور، فإنه لا تزال هناك أهداف لأميركا في تونس والجزائر والأردن على الأرجح. فتونس، التي تشكل مهد انطلاقة أحداث "الربيع العربي"، لا تزال حافلةً ب"المقاتلين الإسلاميين"، والجزائر متعثرة بمشكلاتها الاقتصادية وبالسيطرة السياسية الرئاسية والعسكرية المطلقة.

أما الأردن، ففي حين أنها تستفيد من تبعة الحرب الأميركية على سوريا، وتدمير العراق، فتحظى بنسبة كبيرة من الفلسطينيين المستائين، الذين لا يزالون، حتى الآن على الأقل يحتوون مقتهم الشديد للولايات المتحدة لدعمها إسرائيل.

أما المغرب، فعلى الرغم من أنه داعم ثابت للسياسة الأميركية، فقد يحظى في حال حدوث أي تحرك ديمقراطي بدعم الأنظمة الملكية شرقاً. ويشهد احتياطي النفط في عُمان، الذي يشكل دعامة الاقتصاد، شحاً في السلطنة. واليمن فقد تمت زعزعة استقرارها بنجاح لسنوات، ومصر باتت تخضع لحكم سياسي مدعوم عالمياً.

 

المؤلف

تولى مايكل سبرينغمان عدداً من المناصب الدبلوماسية كموظف الخدمة الخارجية في وزارة الخارجية الأميركية في كل من ألمانيا والهند والمملكة العربية السعودية. وقد ترك مجال الخدمة الفيدرالية ليمارس مهنة المحاماة في العاصمة الأميركية واشنطن. ورد العديد من مقالات سبرينغمان في عدد من المنشورات المتعلقة بالسياسة الخارجية، كمجلة "فورين بوليسي" الأميركية. وهو يحمل شهادة دكتوراه في المحاماة من الجامعة الأميركية في واشنطن.

 

تجنيد المتشددين للقتال في سوريا

عبأت وكالة الاستخبارات الأميركية المتشددين الإسلاميين بمن فيهم قدامى محاربي القاعدة وطالبان في أفغانستان لإزاحة القذافي، ومن ثم جندتهم لخوض حرب جديدة ضد الأسد في سوريا. لقد ضمن ما يسمى بـ"الجهاد" للولايات المتحدة مناطق كانت في السابق خارج إطار نفوذها: الشرق الأوسط، الخليج العربي، وآسيا الوسطى، وقد استخدمت قوتها الجديدة لبناء قواعد تحاصر بها روسيا والعراق وأفغانستان، وحشد أولى قوات الاحتلال للخليج والدول المحيطة.

تأليف: مايكل سبرينغمان

عرض ومناقشة: فاتن صبح

الناشر: الدائنة للنشر، نيويورك، 2015

عدد الصفحات: 250 صفحة