يتميز هذا الكتاب بأنه يجمع بين التحليل التاريخي والتوّجه المستقبلي، وخاصة حين يستوفي جوانب من بحثه بشأن الصحافة ومستقبلها بعد أن انقضى نحو 150 عاماً- كما تذكر فصول الكتاب - على ما يمكن وصفه بأنه بدايات الصحافة ، مع متابعة بالطبع لما طرأ من تجديدات وتطورات وتحديات على مهنة البحث عن المتاعب كما يسمونها.

وقد تجسدت هذه التجديدات أو التحولات في دخول الراديو ثم التليفزيون مع عقود القرن العشرين حلبة العمل الإعلامي، جنباً إلى جنب بالطبع مع الجرائد المطبوعة، ومن ثم اقتحام التكنولوجيا، وخاصة منجزاتها في ساحة الحواسيب وسبل التواصل الإلكترونية حقبة السنوات الأخيرة من القرن الماضي، وهو ما ارتبط بتحولات بالغة الخطورة على مهنة الصحافة التي بدأت بالطبع باعتبارها حرفة جمع وجلب الأخبار. فإذا بالإعلام الجديد يتحول بها إلى ما يتجاوز مادة الأخبار إلى حيث تصبح الصحافة في عمومها أداة للتواصل والتفاعل والتعمق والاستقصاء، بما يتجاوز مجرد نقل أو بثّ المادة الخبرية على نحو ما درجت عليه صحافة المراحل السابقة، وهي الصحافة التي ظلت تعتمد على الورق المطبوع، فإذا بكوكبنا في زمن العولمة وهو يطالب بالتحول عن الصحافة الورقية بما يكفل حفظ موارد الأشجار المستخدمة في صناعة الورق، إلى الصحافة الرقمية التي جعلت القارئ شريكاً متفاعلاً .

لو قيّض لأي فرد أن يطرح سؤالاً بديهياً حول مستقبل الصحافة، لجاءت الإجابة مع مطالع القرن العشرين متمثلة في تطوير آلات الطباعة، أو زيادة أحجام الإصدارات الورقية، أو تعميق الوعي المهني بين صفوف المنتسبين إلى مهنة البحث عن المتاعب، أو توسيع ما تنقسم إليه صاحبة الجلالة كما يصفون الصحافة من اختصاصات يصدر عنها الصحافي كاتب التحقيقات والصحافي المخبر المندوب أو الصحافي المراسل أو الصحافي المحلل المتعمق.. إلخ.

مع هذا كله، وبحكم قوانين تطور الأشياء، فقد جاءت أحيان من الدهر المعاصر لتشهد تطورات استجدت على الصحافة، وخاصة منذ العقد الزمني الثالث (العشرينيات) وحتى العقدين السادس والسابع (الخمسينيات والستينيات).

.. وجـــاء المذيــاع

في العشرينيات وَفَد المنافس الوليد للصحف الورقية تحت اسم المذيــاع الراديو المسموع. ومع الأربعينيات وَفَد منافس آخر بدا وكأنه أوسع موهبة وعطاء، وشراسة أيضاً، ودخل السوق تحت اسم »التليفزيون«، وما لبث أن بلغ ذروة من التطور الذي انعكس بدوره على مهنة الصحافة في عمومها.

وجاء هذا التطور النوعي والكمي أيضاً حين شهدت أواخر الستينيات إلى السبعينيات استخدام البث الفضائي للتليفزيون عن طريق الأقمار الاصطناعية، وهو ما دفع مفكراً اختصاصياً في هذا الميدان هو البروفيسور الكندي مارشال ماكلوهان، إلى إطلاق مقولته الشهيرة وهي: »لقد أصبح العالم قرية إلكترونية«.

هنا كان لابد وأن تسارع اللغة، كل لغة، إلى تبديل مصطلحاتها ومفاهيمها، تحولت كلمة الصحافة من مجرد الانطباق على الجرائد المطبوعة إلى حيث اتسعت آفاقها، كيما تنطبق على الصحافة المذاعة والصحافة المتلفزة ارتقاباً للصحافة الحاسوبية.

وكان بديهياً أن يشهد السوق تحوّلاً من مصطلح الصحافة إلى مصطلح الإعلام، وإن ظل الأمر ينطوي على استخدامات تبادلية بين المصطلحيْن المذكوريْن.

الأخبار محور للإعلام

والحاصل أن هذه المسيرة الطويلة، التي بدأت كما أسلفنا مع نهايات القرن التاسع عشر، وتواصلت مع سنوات القرن العشرين، ظلت تشهد تطورات ونقلات ومتغيرات واسعة النطاق وعميقة الآثار طرأت على ساحة الصحافة الإعلام، وهي ساحة نشأت وتشكلت أساساً لتلبية حاجة جماهير المتلقين لأهم محاور الرسالة الإعلامية، وهو المحور الذي تلخصه كلمة واحدة هي: الأخبـــــــار، لكن ها هي الأحداث والتطورات والاحتياجات تؤكد بكل المعاني أن الأمر تجاوز بكثير محور الأخبار.

من هنا يعكف الباحثون الاختصاصيون على طرح السؤال البديهي: ثم مــاذا بعد الأخبـــــار؟

هذا هو السؤال الذي اختاره البروفيسور ميتشل ستيفنس عنواناً لأحدث كتبه الصادرة. وقد جاء عنوان الكتاب على النحو التالي: »ما بعد الأخبار: مستقبل الصحافة«.

وبديهي ــ كما أسلفنا أيضاً- أن مصطلح الصحافة في هذا السياق الأميركي، بل والغربي بشكل عام، بات ينصرف إلى مهنة الإعلام بكل وسائلها في توصيل الرسالة إلى مستقبلي الرسالة، وهي وسائل بدأت بالحرف المطبوع، وتحولت إلى الموجة الأثيرية المسموعة، وإلى النقطة الضوئية المتلفزة، ثم إلى مفردات الحيّز الافتراضي على نحو ما باتت تتيحه تقنيات وسبل التواصل الاجتماعي في زماننا الراهن.

من هذا المنظور التطوري، المذهل أحياناً، يطّل مؤلف كتابنا على دنيا الإعلام وخاصة من زاوية محددة هي زاوية استشراف المستقبل.

عمر الصحافة

يلاحظ القارئ الذكي لهذا الكتاب أنه يكاد يضع نهاية لفترة زمنية استطالت نحو 150 عاماً، يراها المؤلف بمثابة عمر الصحافة الحديثة. وشهدت تلك الفترة ــ كما يوضح المؤلف - مراحل ازدهار المهنة الصحافية حيث كان ممارسوها يبيعون الأخبار (التحقيقات والريبورتاجات وما في حكمها). ومن خلالها أو في ثناياها لا يتورعون أيضاً عن بيع الإعلانات التي كانت تقدَّم جنباً إلى جنب إلى جماهير المستقبلين، وتؤدي بداهة إلى استمرار ما ظلت الصحافة تنعم به على مدار هذا القرن ونصف من تطور وازدهار.

لكن هذا الخط من التطور وصل إلى نهايته، على نحو ما يراه مؤلفنا: لم تعد الصحافة ــ الإعلام على اختلاف السبل والوسائل والقنوات والأساليب- هي مصدر الأخبار أو المعلومات المقدمة لجماهير المستهلكين. لقد استجدت على حياة الناس، مع حقبة المغيب من القرن الماضي سبل أكثر دينامية وأعمق كفاءة وأشد قدرة على توصيل الأخبار وطرح المعلومات، وتميزت هذه السبل في ذلك بخاصيتين، أولاهما تتمثل في الموافاة اللحظية بالخبر- أثناء وقوع الحدث في بعض الأحيان، وتتمثل الثانية في إمكانية تحديث- استكمال Updating الخبر على مدار الساعة، بل واللحظة، فيما تتمثل الميزة الثالثة في تيسير عملية التلقي للرسالة الخبرية- المعلوماتية من حيث بساطة التعامل مع الجهاز المستخدم: الإتاحة، التشغيل، المكان، التكاليف، الظروف المحيطة.. إلخ.

لا عجب أن يعمد المؤلف إلى نحت أو طرح مصطلح مبسّط ليصدق على صحافة إعلام المستقبل والمصطلح هو: »صحافة العقل«، والمؤلف يفسرها على النحو التالي: إنها إعلام الاستنارة والتعمق في طرح القضايا الحياتية واتباع الأسلوب الموضوعي في معالجة ظواهر ومشكلات المجتمع، وعدم الاقتصار ـ كما كانت الحال في الماضي- على مجرد جمع المعلومات وحشد التفاصيل عما يقع هنا أو هناك: هو أيضاً إعلام ــ صحافة البصيرة قبل البصر أو المشاهدة خاصة في عصر التقدم التكنولوجي الذي نعيش فيه.

عن الصحافة الرقميـة

وبمناسبة هذه الحقبة التي ما برحت تشهد ما حققته التكنولوجيا من خطوات جذرية وما بلغته من أشواط واسعة، تتحول مقولات هذا الكتاب إلى مضمار جديد تماماً يحفل بالتحديات بقدر ما يحفل بالمنجزات.

هنا يطالعنا الكتاب بعنوان يمكن أن نعده مستجداً على دنيا الصحافة والإعلام. هذا العنوان مؤلف من كلمتين مشحونتين بدلالات غير مسبوقة، وهما:

الصحافة الرقمية (ديجيتال جورنالزم)، لها جانبان أولهما سلبي والثاني إيجابي:

 

صحيح أن الأمر كفيل بأن يستغرق ردحاً قد يقصر أو يطول من الزمن، لكن دعاة وأنصار البيئة يواصلون الجهود، ومروجو تكنولوجيا الإعلام الحاسوبي، الإلكتروني الرقمي يزدادون عافية وقدرة ونفوذاً. والأجيال الطالعة تفضّل ومضة الحاسوب على سطور المطبعة، ناهيك عن دارسين ومحللين لا يفتأون يبشرون بنوعية جديدة ناهضة من الصحافة والإعلام تتجاوز صحافة الأنباء إلى صحافة المشاركة والتفاعل والسرعة اللحظية بأشواط لم تكن لتخطر على بال، ومن هؤلاء المحللين يأتي مؤلف هذا الكتاب.

 

خمسة أسئلة جديدة تجتاح الإعلام

لأن المستقبل هو بالطبع وليد الحاضر، بقدر ما أن الحاضر هو وليد الماضي، فإن الدكتور ستيفنس يطالع قارئيه مع الفصول الأولى من كتابنا محللاً أبعاد ما طرأ من تغير في حاضرنا على حرفة ورسالة ودور الإعلام على النحو التالي: زمان، كانت أولويات الدراسة التي تعرض للعمل الصحافي- المهمة الإعلامية تدور حول إجابات الأسئلة البديهية الخمسة التالية: من، ماذا، أين، ومتى وكيف؟

هنالك يذهب المؤلف إلى أن هذه الأسئلة الخمسة أصبحت تراثاً كلاسيكياً لم يعد قادراً على تلبية مطالب التطور الحاصل حالياً في دنيا الإعلام، وكان على هذه الكلاسيكيات أن تُخلي مكانها كي تحل محلها أسئلة أحدث صياغة وأوفر مقدرة على تلبية مطالب اللحظة التي يعيشها العالم في الوقت الحالي.

الأسئلة الخمسة الجديدة تتعلق بالقضايا الخمس التالية: تقديم المعلومة + ذكاء (حساسية) الطرح + ضرورة التفسير + أهمية التعمق والتحليل + رسالة التنوير التي يتحمل الإعلام مسؤوليتها.

من هنا تؤكد فصول الكتاب على ضرورة التحول عن المنظورات التقليدية الكلاسيكية كما يصفها المؤلف، تلك التي ظلت تقتصر على المفهوم المتعارف عليه وكان يطلق على الصحافيين- الإعلاميين المصطلح التالي: حراس البوابات، بمعنى أنهم كانوا يقدمون الخبر من موقع المحايد دون تدخل في مضمونه. وهو المعنى الذي ظل مرادفاً للتعريف الكلاسيكي بدوره لمهمة الصحافة ــ الإعلام منذ أيام روادها السابقين، وفي مقدمتهم الكاتب ــ المفكر الأميركي والتر ليبمان (1889- 1974) في مصنّفه الشهير بعنوان الرأي العام. وعلى ضوء ما أشار به هؤلاء الرواد فقد تحددت وظيفة الصحافة - الإعلام في 3 مهام أساسية هي : الإٍخبار (التزويد بالمعلومات) + التثقيف (وهو أوسع نطاقاً بالطبع من مجرد التعليم)+ الترفيه (وهو القطب الجاذب بالطبع لإقبال المتلقي على الرسالة المقدمة والهادفة إلى تزويده بسبل الوعي والثقافة في آن معاً).

 

مستقبل السلطة الرابعة

أبدت العديد من الصحف العالمية اهتماماً كبيراً بكتاب »مستقبل الصحافة في العالم«، باعتبار أنه يدور حول وجودها ذاته، ومن هنا وصفته مجلة »ببلشرز ويكلي« بأنه »كتاب لماح، يوحي بالتألق ويفيض بالصراحة«.

أما مطبوعة »لايبراري جورنال« فقالت عنه إنه يخاطب كل من يهتم بالتوصل إلى منظور شامل حول مستقبل السلطة الرابعة، فضلا عن أهميته بالنسبة للباحثين والاختصاصيين.

 

المؤلف

البروفيسور ميتشل ستيفنس أستاذ جامعي اختصاصي في بحوث وتدريس المواد الإعلامية في كبريات الجامعات الأميركية. إن جهوده وأنشطته لا تقتصر على محاضراته وبحوثه الأكاديمية، وإنما تمتد وتتسع لتشمل إذاعات ومشاركات جماهيرية في محطات التليفزيون وموجات الإذاعة بالولايات المتحدة، فضلاً عما ينشره من مقالات حول قضايا ومشكلات الإعلام الحديث في صحف سيارة، مثل »الواشنطن بوست« و»النيويورك تايمز« ومجلة جامعة كولومبيا .

تأليف: ميتشل ستيفنس

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: جامعة كولومبيا، نيويورك، 2015

عدد الصفحات: 264 صفحة