تركّز مقولات هذا الكتاب على الجوانب الفكرية من السياسة الخارجية للولايات المتحدة حيث يلمح المؤلف إلى ما ظل يراود أميركا منذ نشأتها الأولى من أفكار تدعوها إلى الاضطلاع بدور قيادي، وأحياناً دور أقرب إلى الهيمنة على مستوى العالم الذي تعيش فيه، خاصة وأن أميركا لم يقيَّض لها أن تقوم بدور له فعاليته على صعيد السياسة الدولية إلا مع العقود الاستهلالية من القرن العشرين.
وكان ذلك بعد الحرب العالمية الأولى التي شهدت سقوط وزوال الإمبراطوريات الكلاسيكية إلى أن تصّدرت أميركا مسيرة الجهد الحربي خلال الحرب العالمية الثانية ثم عمدت قياداتها وفي مقدمتهم الرئيس الأسبق ترومان، إلى إصدار وثيقة السلوك الأميركي في مضمار السياسة الخارجية بعد أن حذفوا من هذه الوثيقة أي إشارات إلى المصالح الاقتصادية لأميركا. وبدلاً من ذلك أوردوا الإشارات المتكررة إلى رسالة أميركا ومكانتها ودورها القيادي إزاء العالم.
بيد أن المؤلف، بحكم تكوينه الماركسي، يعمد إلى انتقاد هذه النزعة إلى الهيمنة ويعزو إليها ما واجهته أميركا من كوارث وما اقترفته من أخطاء السياسة الخارجية خلال النصف الثاني من القرن الماضي ابتداء بالإطاحة بالدكتور مصدق في إيران وليس انتهاء بحرب العراق مروراً بمحاولة فاشلة لغزو كوبا ثم حرب فيتنام.
رجل يمكن أن يكون رئيساً لأكبر دولة في العالم، اسمه بن كارسون صنع شهرته بفضل تفوقه بوصفه واحداً من أفضل وأهم الأطباء الجراحين في أميركا، بعدها قرر أن يدخل معترك السياسة مرشحاً عن الحزب الجمهوري الذي يتطلع حاليا إلى الفوز بمقعد الرئاسة في البيت الأبيض مع خريف عام 2016 الوشيك.
في منتصف نوفمبر الجاري، شارك الدكتور كارسون في أحدث مناظرة دارت على رؤوس الأشهاد بين المرشحين الجمهوريين، كان لابد للمناظرة أن تعرض لما يدور حاليا على مسرح الأحداث في منطقة الشرق الأوسط.
هنالك توقعت جماهير المشاهدين الأميركيين أن تستمع إلى ما يدل على مدى ما يتمتع به المرشح بن كارسون من فهم واستيعاب ومتابعة دقيقة لما يجري في الشرق الأوسط، خاصة وقد توجهت مسارات الحديث إلى التركيز على ما يدور على الساحة السورية بالذات.
ما كان من المرشح الجمهوري المحترم إلا أن أدلي بدلوه كما يقولون قائلاً: إن الساحة السورية شهدت وتشهد تدخلاً من جانب.. الصينيين! إنهم تدخلوا عسكرياً في الصراع السوري ولكنهم ما لبثوا أن واجهوا الفشل هناك.
هكذا أعلن المرشح الجمهوري »اللوذعي«، كما قد نصفه، على شاشات التليفزيون القومي الأميركي وكان ذلك في معرض تصوراته بشأن البلدان التي يزمع دعوتها لتشكيل ائتلاف يتولى محاربة قوي الإرهاب المسلح في حال أصبح رئيسا للبلاد.
وكان طبيعيا أن تبادر جريدة »النيويورك تايمز« إلى كشف هذا الجهل بمجريات السياسة الخارجية، فكان ان نشرت مقالا بقلم تريب غابرييل (عدد 17/11) الذي نقل عن كبار مساعدي المرشح الجمهوري قولهم: إن مرشحنا المحترم لم يجد أحدا من خبراء السياسة الخارجية يجلس معه كي يوافيه ولو بمقدار »أيوتا« بمعنى مثقال ذرّة، من فهم للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
لا عجب ان تختار »التايمز« لمقالها المنشور العنوان التالي: بن كارسون يكافح من أجل فهم السياسة الخارجية هكذا يقول مستشاروه.
السياسة الخارجية الأميركية
والشاهد أن مثل هذه الملابسات هي التي تضفي أهمية متجددة على الكتابات والدراسات التي تعرض من منظور فكري للسياسة الخارجية لأميركا ومنها الكتاب الصادر مؤخرا، الذي نتابع مضامينه فيما يلي من سطور، وقد اختار له مؤلفه بيري اندرسون عنوانا يقول بما يلي:
السياسة الخارجية الأميركية ومفكروها، أما المؤلف فهو استاذ اكاديمي يتولى تدريس علم التاريخ في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، غربي الولايات المتحدة.
يتابع مؤلفنا- عبر فصول الكتاب- تطور استراتيجية السياسة الخارجية والحرب (باعتبار الحرب نشاطا خارجيا بحكم التعريف) وعلى مدار فترة الواقع الحديث أو المُعاش، وبالتحديد ابتداء من حرب أميركا ضد المكسيك في عام 1914 وحتي حرب أميركا ضد الارهاب في الفترة الراهنة.
ونلاحظ في سياق تحليل هذا الكتاب أن المؤلف يركز بالذات على ما يراه بأن الحرب تشكل في نهاية المطاف جهودا مبذولة للحفاظ على رؤوس الاموال، وبمعنى على مصالح فئات الرأسماليين الذين سبق أن وصفهم الفيلسوف الفرنسي توكفيل (1805- 1859) بأنهم لا يصدرون عن منطق الحب أو البغض، ولكنهم ينطلقون من موقف واحد فقط لا غير اسمه: المصلحة.
بين الانغلاق والانفتاح
ثم يتحول المؤلف من هذه الأرضية النظرية إلى حيث يعمد إلى تقسيم الطروحات الصادرة عن مفكري وصانعي السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى فئتين:
اهل الفصيل الأول ينادون بضرورة ان تلزم أميركا حدودها ولا تبالغ في مبارحة هذه الحدود إلى الخارج حتى لا تبدد قدراتها عند تخوم البلاد البعيدة.
اما الفصيل الآخر فكان يمثله الرئيس الأميركي الأسبق ودرو ويلسون (1856- 1924) صاحب فكرة عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة. وقد بذل ويلسون كل الجهود لإقناع الأميركيين ان مصالحهم الوطنية لا سبيل إلى تحقيقها الا من خلال رؤية تقضي بأن أميركا قوة عالمية ولها دور تضطلع به في طول الكرة الارضية وعرضها.
هنا يلاحظ قارئ الكتاب أن المؤلف لا يسلّم بأي من المنظورين، بمعنى أنه لا يتقبل فكرة الانعزال (أو فلنقل التقوقع) داخل الحدود بقدر ما يرفض أيضا فكرة دور القوة العالمية.
ويدلل المؤلف على هذا النهج الذي يرسمه، موضحا أن الرئيس ويلسون فشل في عام 1920 في إقناع الكونغرس بالتصديق على اقتراح عصبة الامم، التي دعا إليها بعد الحرب العالمية الأولى، في حين أن نسبة التجارة الخارجية لأميركا في العام المذكور لم تكن تتعد 10 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، وكان في هذا شاهد يدل على مقدار التناقض بين الواقع والتصور.
بادرة الرئيس ترومان
بعدها يوضح كتابنا ان الأمور اختلفت مع الحرب العالمية الثانية (1939- 1945). وخلال سنوات الحرب الست ثم في الاعوام التي أعقبتها، تحولت السياسة الخارجية الأميركية إلى ادراك الدور القيادي لأميركا، وبدا مخططو هذه السياسة الخارجية في الحديث عن مصالح أميركا الاقتصادية التي تتحقق من خلال انفتاح واشنطن للتعاطي والتواصل مع العالم الخارجي في تلك الحقبة التي بدأت تتضح معالمها مطلع عقد الخمسينات.
مع ذلك يسجّل الكتاب للرئيس الأميركي الاسبق هاري ترومان (1884- 1972) انه اصدر أوامره بحذف اي عبارات أو إشارات تلمح إلى المصالح الأميركية المادية في مجال التجارة أو الأسواق الخارجية ضمن سطور البيان الرئاسي الصادر عن البيت الابيض بشأن مرحلة ما بعد الحرب. يومها تحدث ترومان قائلا: »إن التطرق إلى هذه الأمور ما بين التجارة أو الاقتصاد أو المصالح (المادية) يجعل المسألة تبدو وكأنها اطروحة للاستثمار«.
وبرغم أن المسألة لم تكن تعدو مجرد لياقة سياسية أو بادرة أقرب إلى لغة الدبلوماسية، فإن مؤلف الكتاب يؤكد أن هذا النهج أصبح هو المتبع سواء من جانب هاري ترومان أو من جانب من جاء بعده من الرؤساء. والمعنى أن تغيرت لغة الخطاب السياسي الخارجي بعد ان جاء الحديث، لا عن المصالح الاقتصادية، ولكن عما أصبحوا يصفونه بأنه الرسالة التي تضطلع بها أميركا نحو العالم.
ثمن باهظ
وبرغم ان حكاية الرسالة إياها لم تكن لتعدو كونها أمراً دعائياً، إلا أن مؤلفنا يتعامل مع حكاية الرسالة على أنها شكلت جانباً سلبياً وبالغ الخطورة بالنسبة لمسارات السياسة الخارجية الأميركية، وهنا يحيل المؤلف ايضا إلى ما يوصف بأنه الكتالوج الذي يسجل كل كوارث السياسة الخارجية للولايات المتحدة، واصفا هذه الكوارث بأنها لم تكن مجرد أخطاء ارتكبها هذا الرئيس أو ذاك ابتداء من ايزنهأور، ومرورا بكل من كيندي ونيكسون ثم وصولا إلى بوش الابن.
يسترعي اهتمام القارئ أيضا ما يذهب إليه المؤلف من نزوع السياسة الخارجية الأميركية إلى تضخيم التهديدات التي تلوح في الأفق، وهو ما يخالف في رأيه التصور المنطقي بأن الدول القوية ذات القدرات العسكرية الهائلة لن تصاب بالخوف بسهولة.
لكن الذي حدث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، جاء على عكس هذا التصور تماما. ولقد بدا الأمر مع تصورات إدارة ترومان إزاء تهديد نووي سوفيتي منذ أواخر الاربعينات، ثم تلته المقولة والمؤسسة التي تحدث عنها أيزنهاور حتى أواخر الخمسينات، واصفا أهم وأخطر القوى المؤثرة على صنع القرار في أميركا في عبارته الشهيرة: إنها المجمع العسكري- الصناعي في بلدنا.
وربما تتمثل الفكرة المحورية في هذا الكتاب، وهو ما تنبّه إليه كثير من المحللين- في أن مشكلة أميركا أن ظلت تراودها فكرة الكيان الامبراطوري بمعنى كيان الهيمنة والتفوق على سائر الأطراف- خاصة وأنها خرجت إلى ساحة القضايا العالمية مع العقود الأولى من القرن العشرين، بل مع اندلاع الحرب العالمية الأولى بالذات، وهي الحرب التي أدت إلى سقوط ممالك ودول وامبراطوريات سبق وأن كان لها أدوار الهيمنة في قرون خلت- ابتداء من خلافة بني عثمان في تركيا إلى امبراطورية الهابسبورغ في النمسا، وامبراطورية الرومانوف في روسيا، ثم امبراطورية القياصرة في ألمانيا، فضلا عن ظهور ارهاصات الغروب بالنسبة لإمبراطورية انجلترا وفرنسا، وربما ظلت أو أن تتذرع بالصبر على امبراطورية السوفييت إلى أن سقطت بدورها مع بداية التسعينات وهو ما دفع فوكوياما ومدرسته الفكرية إلى طرح مقولتهم بشأن نهاية التاريخ، وهذا الطرح يرادف القول بأن ثمة بداية أخرى للتاريخ بقيادة أميركا، وهو ما تعكف على تفنيده مقولات هذا الكتاب.
المؤلف
يعمل المؤلف أستاذاً بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس . وقد اشتهر مع أقرانه بأنهم كانوا من أهم المثقفين الذين كان لهم تأثيرهم العميق خلال الفترة الممتدة من الخمسينات إلى التسعينات .
في 1956 بدأ المؤلف دراسته في جامعة اكسفورد، وهو العام الذي شهد معركة السويس، وهو ما خلّف تأثيره على المؤلف ، مما دفعه إلى مهاجمة المد الاستعماري في العديد من الكتب ، ومنها كتابه »النظام العالمي الجديد القديم«.
بيري أندرسون يفتح النار على فوكوياما
يضيف كتابنا عوامل محدثة أخرى إلى عامل رأس المال في تحديد السياسة الخارجية الأميركية، ويصفها بأنها عوامل القوة الجبارة العسكرية والنووية على صعيد عالم وحيد القطب (منذ انتهاء الحرب الباردة في مطلع التسعينات من القرن العشرين).
وفي هذا السياق يوجه المؤلف انتقاداته إلى نفر معاصر من مفكري السياسة الخارجية الأميركية وعلى رأسهم بالطبع فرانسيس فوكوياما، صاحب مقولة وكتاب نهاية التاريخ، حيث يعمل المفكر المذكور وهو بداهة من أصل ياباني، مستشاراً بوزارة الخارجية في واشنطن. وقد انتقده مؤلفنا لأن فوكوياما ما زال يصدر عن منطق اليمين السياسي، الذي يعمل على تكريس حكاية القطب الوحيد في عالمنا، وهو قطب أميركي بحكم التعريف. وهنا يدعو المؤلف ومعه مفكرو اليمين الأميركي السياسي إلى الانطلاق من نظرة اكثر واقعية بعيدا عن تثبيت وتكريس حكاية القطب العولمي الكوكبي الوحيد.
ثم يحرص المؤلف أيضاً على توجيه اللوم إلى مسارات السياسة الخارجية الأميركية التي أدت في رأيه إلى إشعال النيران في مواقع شتى من خارطة عالمنا، ما بين العراق إلى ليبيا، وما بين أفغانستان إلى أوكرانيا، بل إلى مواقع شتى في منطقة الشرق الأوسط.
المهم أن البروفيسور اندرسون، وهو من مفكري ماركسية السبعينات من القرن الماضي، حريص على تحليل السياسة الخارجية الأميركية من خلال المنظور الذي سبق إلى طرحه منذ أواخر القرن التاسع عشر، الزعيم الروسي الأسبق فلاديمير لينين (1870- 1924) حين قال: إن الاستعمار هو اعلى مراحل الرأسمالية، وبمعنى أن المد الإمبريالي- سواء بدا مداً إسبانياً أو برتغالياً ثم تحّول إلى مدّ بريطاني أو فرنسي، ظل يمثل في التحليل الأخير عملية بحث عن المواد الخام من أرض المستعمرات، فضلاً عن فتح أسواق جديدة لما تطرحه مصانع الهيمنة الرأسمالية من سلع ومنتوجات.
مع ذلك يلاحظ قارئ الكتاب ان المؤلف لا يوغل في استخدام هذا المنظور الماركسي، بقدر ما يحرص بالذات على تأكيد ما يصفه الكتاب بأنه »المنظور المعنوي- الأخلاقي« والمؤثرات الفكرية والثقافية التي شكلت في مراحل سبقت مصدر الهام للسياسة الخارجية الأميركية. وهو يدلل على ذلك من واقع الحرب التي خاضتها أميركا من اجل تحرير الفلبين من ربقة الاستعمار الإسباني خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر.
الثمن الباهظ
يعدد الكتاب الكوارث الأميركية ما بين الإطاحة بالزعيم الإيراني الدكتور مصدق إلى غزوة خليج الخنازير الفاشلة ضد كوبا إلى ما يصفه المؤلف بأنه مستنقعي فيتنام والعراق- كل هذه الأحداث لم تكن مجرد خطأ رئاسي ، ولكنها كانت ثمناً باهظاً ظلت أميركا تدفعه، لقاء سياستها التي تقوم على أساس دور القطب الكوكبي المهيمن، وهو قطب يكلف نفسه بما يمكن وصفه بأنه سوبر- مهام في مجال السياسة الخارجية، دون أن يبدأ أساسا بضبط وتحديد أولوياته طبقا لمصالح وطنية يتم تعريفها طبقا لمنظور واقعي وموضوعي ورشيد، على نحو ما يذهب إليه الكاتب الأميركي مايكل أغناتييف في تعليقه على هذا الكتاب.
تأليف: بيري أندرسون
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مؤسسة فيرسو، نيويورك، 2015
عدد الصفحات: 272 صفحة