على الرغم من أن التخصص العلمي والأكاديمي لمؤلفي الكتاب يغطي مجال الاقتصاد بالدرجة الأولى، إلا أنهما يهتمان في الكتاب بالتركيز على عامل يريانه من الأهمية بمكان بالنسبة للإدارة الرشيدة، ومن ثم الفعّالة أو المجدية لعملية الاقتصاد على اختلاف المواقع والمجتمعات. وهذا العامل يتركز- ابتداء من عنوان الكتاب- في جانب التعلّم.
وفي هذا الإطار يرى المؤلفان أن مجتمع المعرفة، وهو أيضاً مجتمع تكنولوجيا المعلومات والاتصال، الذي أصبح العالم يعيشه، ويتفاعل معه وخاصة مع السنوات الاستهلالية من هذه الألفية الثالثة- هو المجتمع الذي يمكن أن يتيح سبيل التعلم.
بعدها، تتحول بحوث الكتاب إلى التركيز على أهمية دور الدولة، وخاصة دور السياسة العامة أو السياسة المجتمعية، التي تعمل الدولة على تفعيلها من خلال ما تضمه من مؤسسات وهيئات وأجهزة وفعاليات، وبمعنى أنه لايزال للدولة في مجتمع المعلومات الراهن دور محوري تؤديه في تصحيح أخطاء السوق، وهو ما يؤكد دعوة الكتاب إلى التخلي عما كان يوصف بأنه السياسة النيوليبرالية في إدارة الاقتصاد لصالح سياسة التعلم مقترناً بالعمل التي تؤكدها فصول الكتاب.
تقني، أو تقنية، لفظة مشتقة من لغة الإغريق اليونانية كي تنصرف إلى معاني الفن التطبيقي أو الحرفة أو الدراية العملية أو التخصص الدقيق. وحين بدأ الناس يستخدمون مصطلح «تكنولوجيا»، كانوا يقصدون بدورهم معنى المواصلة – الاستمرار في استخدام الدراية العملية لتحقيق ما يرمي الإنسان إلى تحقيقه من أغراض.
ولأن المرء لا يستطيع أن يمارس هذا الفرع من فن الدراية العملية الاحترافية إلا بعد أن يسلك سبلاً متواصلة من التعلم والتدريب والممارسة الميدانية والتطبيق العملي، فقد اصطلح الاختصاصيون بدورهم على مبدأ بديهي، يقول بما يلي: إن التقدم باستخدام التكنولوجيا يبدأ عند محطة محورية تلخصها الكلمة التالية: التعلّم (بمعنى اكتساب المعلومات).
ومن هنا دخل إلى قاموس المعرفة العالمية المصطلح التالي: مجتمع المعلومات، ثم دخل معه بداهة مصطلح تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وخاصة بعد أن استجدت على عالمنا، مع الثلث الأخير من القرن العشرين، ثورتان: الأولى في مجال الاتصالات بالأقمار الاصطناعية، والثانية في مجال النقلة الثورية المنشودة في استخدامات الحاسوب الإلكتروني على نحو ما وفرته، ولاتزال بالطبع، شبكة المعلومات الكونية – الكوكبية المعروفة باسم الإنترنت.
من هنا أصبح المفتاح لكل ما عاشه وما يتوقعه عالم هذه الألفية الثالثة تلخصه كلمة وحيدة بدورها هي: التعلّــــــم، وهذا هو المنطلق الذي يصدر عنه الكتاب الذي نعايشه في السياق الحالي، حيث صدر ليحمل عنواناً يمكن ترجمته كما يلي: نحو مجتمع يتعلم.
التنمية والتعلم
يستهل هذا الكتاب مقولاته بالتأكيد على أن النمو أو التنمية سواء على مستوي البلدان أو المشاريع الكبرى أمر يتحقق في رأي هذين الأستاذين، وباختصار بالغ التكثيف، من خلال ممارسة هذه الكيانات لعملية التعلم المتواصل وعلى مدار مراحل ثلاث هي:
• أولاً: الابتكار (بمعنى التطلع إلى آفاق أكثر طموحاً).
• ثانياً: التجديد (بمعنى تطويع أو تكييف الابتكارات التي يتم التوصل إليها بحيث تتواءم مع عمليات الإنتاج).
• ثالثاً: (وهذا هو الأهم) أن نتعلم أسلوب أو مهارة التعلم (بمعنى اكتساب أنجع الأساليب التي تتيح إمكانية أن نكتسب الجديد من المعلومات، والخبرات والمعارف وبما يهيئ لنا سبلاً أوسع وأعمق لكي نضيف هذا الجديد إلى منظومة معلوماتنا وثروات معارفنا).
بعدها يلخص المؤلفان الهدف المنشود تحقيقه من خلال هذه العمليات الثلاث وهو: إن هذه العملية من التعلم هي التي تتيح للمؤسسات والقطاعات، ومن ثم لمجمل النظام الاقتصادي في هذا البلد أو ذاك، إمكانية أن يصل إلى ترجمة قدراته ومواهبه وموارده إلى واقع حقيقي مُعاش وملموس ونافع لعموم المواطنين.
بعدها تتحول فصول هذا الكتاب إلى حيث التأكيد على أن تشكيل أو إبداع مجتمع للتعلم، لا يعني التركيز على الأفكار النظرية أو الأفكار المحلِّقة بين السماء والأرض: إن الخطوات الأولى في مجتمع إنما تتحقق موضوعياً من خلال البدء ببناء هياكل راشدة في مجالات الإنتاج والخدمات، وتتمثل في مؤسسات ومرافق وهيئات تعمل على أساس من المسؤولية فيما تصدر في أنشطتها عن رؤى واضحة المعالم ومحددة الأهداف عبر مختلف القطاعات التي تمارس أنشطتها على صعيد الوطن بشكل عام.
المهم أن يستمر الأخذ بفكرة أو مبدأ أو مناخ تجسده بيئة التعلم المستمر، التي لا تستعلى على مواصلة اكتساب المعارف، وتعلّم الدروس المستفادة أو المستقاة من الخبرات العملية والتجارب الميدانية، بما في ذلك عبرة الخطأ ومنجزات الصواب.
الجوانب المادية وغيرها
بيد أن هذه الممارسات – وعلى نحو ما تؤكده تحليلات الباب الثالث من كتابنا- لا تقتصر على جوانب الفكر المجرد أو مواقع التأمل أو التنظير. الأستاذان ستغلتز وغرينوولد يشددان على الدور الجوهري، الذي تضطلع به السياسات الاقتصادية والممارسات التجارية (بمعنى الأنشطة المادية والميدانية والعملية) في استحداث ركائز مجتمع التعلّم.
وفي السياق نفسه، يتحولان إلى التركيز على الدور الذي تقوم به الجوانب غير المادية متمثلة في المِلكية الفكرية التي تحفظ- بحكم التعريف- حقوق المبدعين والمخترعين والمفكرين والمنّظرين ومَن في حكمهم من الإهدار أو الضياع.
في ضوء هذا كله، لا ينفك المؤلفان يركزان أو يشددان على أن أولويات التنمية في أي بلد أو شعب في عالمنا لا تبدأ مثلاً بحسابات حجم رأس المال ولا تكاد تتوقف عند آفة فقر الموارد أو ما يقابلها من ظواهر اليسر أو الثراء.
إنها تتوقف في تصورهما عند مدى ما يتصف أو مدى ما يتميز به هذا البلد أو ذاك الشعب من طموحات أو رغبات التعلّم، وهو ما يصوغ الرؤية الشاملة، والثاقبة أيضاً، إلى آفاق المستقبل بكل ما ينطوي عليه من وعود وطموحات وتحديات أيضاً.
دور الدولة
ثمة مقولة محورية لا يمكن أن تغيب عن اهتمامنا كوننا قارئين لهذا الكتاب وتتمثل في تركيز المؤلفيْن على أهمية الدور المحوري الذي لا بد أن تقوم به الدولة بوصفها كياناً فاعلاً وقادراً، بما في ذلك الحكومة على اختلاف فروعها ووكالاتها ومؤسساتها، في تفعيل اقتصاد المعرفة الذي يطالب به مؤلفا الكتاب.
وبديهي أن الاهتمام بالدور الأساسي للدولة في عمليات التنمية أمر يخالف طروحات المذهب النيوليبرالي، الذي سبق تكريسه، كما هو معروف، وخاصة ابتداء من مستهل عقد الثمانينيات من القرن العشرين وقد جسّدته – بالطبع حقبة مارغريت تاتشر في إنجلترا، ومرحلة رونالد ريغان في الولايات المتحدة.
هنالك أطلقوا العنان، كل العنان، للقوى الرأسمالية العاتية وللملكيات الخاصة المهيمنة وللشركات والاحتكارات المتعددة الجنسيات. وترددت أصداء هذا كله في الدعوة التي سبق إلى إطلاقها أواخر ثمانينيات القرن صندوق النقد الدولي تحت الشعار المعروف الذي تلخصه عبارة التكيف الهيكلي، وهي السياسة، التي أصابت بعلل التشوه اقتصادات عديدة وخاصة في قارة أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، فيما جاءت هذه التشوهات أو التكيفات على حساب أوسع وأفقر قطاعات الجماهير في البلدان النامية، حيث ازدادت هذه الفئات المحرومة فقراً وحرماناً وتهميشاً على السواء.
من هنا لا يفتأ كتابنا يؤكد أن الدعوة التي يوجهها الكتاب إلى التعلم، ثم الجمع الآني بين التعلم والعمل لا تقصد إلى مجرد اكتساب المعارف بقدر ما أن الهدف يتمثل في هذا المضمار في استخدام هذه المعارف من اجل تطوير أساليب الإنتاج وزيادة حجم هذا الإنتاج.
ومع هذه الزيادة تبدأ الأسعار في الانخفاض في مجال السلع والخدمات، ولدرجة تصبح معها في متناول، أو قرب متناول جموع الفقراء وفئات المهمشين في المجتمع المستهدف، إن لم يكن في الأجل الفوري أو القريب فليكن في الأجل الطويل، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أن دعوتهما إلى هذا التعلم إنما تقصد بالذات التوجه إلى اكتساب المعارف مقترناً بالممارسة على أرض الواقع أو التعلم من خلال العمل أو في مواقع العمل.
الابتكار ومحاذيره
إن دعوة كتابنا إلى ممارسة أساليب التجديد وتفعيل إمكانات الابتكار محوطة أيضاً بتحذيرات يؤكدها الأستاذان ستغلتز وزميله غرينوولد، وتتمثل التحذيرات في أن الابتكار في أي مجتمع ينبغي أن يكون سائغاً ومفيداً وحذراً وإيجابياً، وبمعنى أنه لا يجوز مثلاً في تصورهما ابتكار سلعة أو خدمة جديدة باستخدام مصدر تقليدي من مصادر الطاقة.
ومن ذلك الفحم مثلاً، وهو واحد من مصادر الطاقة الأحفورية التي قد تفيد بدرجة ما، ولكنها لا تلبث ترسل إلى الأجواء الخارجية أنواع الانبعاثات الكربونية الضارة بصحة الكائنات الحية بفعل ما تؤدي إليه تلك الانبعاثات من تلوث الهواء.
ثم هناك درجة التأكيد التي توليها فصول الكتاب على ضرورة تدبّر الأمر وتدارس العواقب عندما يتمثل واحد من الابتكارات التجديدية على صعيد اقتصاد ما – في التوصل إلى ماكينة مبتكرة وقادرة على أن تؤدي العديد من الوظائف والمهام، وهو وضع يؤدي في نهاية المطاف إلى الاستغناء عن عشرات من البشر من العمال والفنيين ومساعديهم، وكان الابتكار، وهو أمر إيجابي في حد ذاته، يؤدي إلى قطع الأرزاق وندرة التشغيل، ومن ثم إلى تفاقم حالة الفقر التي كان الهدف الأساسي يتمثل في التصدي لها.
في كل الأحوال، يكاد مقصد هذا الكتاب يتلخص في القول إن سياسة الحرية المطلقة أو مبدأ دعه يمر (Laissez faire) الموروث من أيام الثورة الفرنسية الكبرى (1789)، وهو ما يكاد يترجم أو يرادف مبدأ الحرية المطلقة لآليات السوق على نحو ما أكده المفكر الإنجليزي آدم سميث في كتابه الأشهر «ثروة الأمم» (1776) – هذه السياسة لم تعد قابلة ولا صالحة للتطبيق في إطار الواقع الراهن، الذي أصبح عنوانه يتمثل في تأسيس وتفعيل مجتمع المعرفة.
حيث لم يعد الأمر يقتصر بداهة على المجتمع المحلي أو الوطني أو القطري أو الجهوي أو الإقليمي بقدر ما اتسع النطاق ليوجب على العالم وسكانه ضرورات التعامل مع المجتمع الكوكبي، في إطار ظاهرة العولمة المستجدة في حياتنا بكل ما ينطوي عليها من إيجابيات وسلبيات.
المعرفة محور التقدم
يؤكد الكاتبان القاعدة التي سبق إليها المفكر الأميركي كينيث ارو في ورقة بحثية بالغة الأهمية نشرها في عام 1962 تحت العنوان التالي: «التعلم بالممارسة» (Learning by Doing)، وهي تقرن بداهة بين العلم والعمل، أو بين التنظير الفكري والتطبيق العملي في آن معاً.
في ضوء ما سبق يحمد المحللون والنقاد لكتابنا تركيزه، عبر أبوابه الأربعة وفصوله الاثنين والعشرين، على عنصر المعرفة بوصفه محور التقدم، حيث يخلص المؤلفان بالتالي إلى حقيقة، بل بديهية ينبغي أن توضع في بؤرة الاهتمام، وخاصة بالنسبة لمسؤولي الأقطار الطامحة في عالمنا الراهن إلى اتخاذ طريقها على صراط التحول الإنمائي وصولاً، أو طموحاً، إلى التقدم الاقتصادي أو الاجتماعي.
إنها حقيقة التعلم عبر الممارسة بعيداً عن التجريد أو التنظير، فالكتاب يتفرد – في تصورنا- بعنصر التنبيه إلى ما تخلّف عن اتباع السياسة النيوليبرالية في مجال الفعل الاقتصادي، وهي السياسة التي تركز بالذات على عنصر توافر الموارد المادية المتاحة وعلى مخصصات الأموال – المليارية بالطبع – المعتمدة لهذا الغرض أو ذاك من أغراض النشاط الاقتصادي.
في هذا الخصوص، يحذر الكاتبان من أن هذه النظرة الأستاتيكية كما يصفانها، بمعنى النظرة الجامدة الثابتة وغير الديناميكية في التعامل مع أوضاع التنمية، تؤدي إلى الحيلولة دون التعلم، وهو ما يفسر – كما يضيفان – السبب في أنه حتى حرية التجارة قد تفضي إلى ركود اقتصادي على نحو ما عايشه العالم من وقوع أزمة 2008 المالية – الاقتصادية التي مازالت تخلّف عواقبها السلبية حتى الوقت الراهن.
هنالك نؤكد ما لاحظناه من اهتمام هذا الكتاب بالتشديد على مقولة أن مطالب الحياة ومصالح المجتمع ونجاحات الاقتصاد ومنجزات الدول والشعوب، أمور لا تتحقق ولا تتوقف عند الجوانب المادية البحتة من الأنشطة الاقتصادية، ولكنها تمتد لكي تشمل بل وتقتضي التطلع إلى الجوانب الأخرى، غير المادية من النشاط والاهتمام البشري، وبمعنى أن المجتمع المنشود ليس هو مجتمع النجاح الاقتصادي فحسب، ولكنه أيضاً مجتمع التفكير والبحث والإبداع، هو المجتمع المتعلم كما يؤكد المؤلفان – كما أسلفنا – ابتداء من عنوان هذا الكتاب.
سلبيات الأسواق
المجتمع – كما يراه المؤلفان- يعاني، في الوقت الحالي، من أنواع المشكلات وعدم الاتساق وسلبيات الأسواق والقصور الواضح في إدارة حركة الاقتصاد.
وهنا يؤكد الكتاب في طروحاته الختامية، على أنه لا سبيل لمواجهة هذه المشكلات إلا من خلال ما يصفانه بأنه ترشيد السياسة العامة، فهي التي يتم تطبيقها دون تحيز لفئة أو طبقة أو مصالح معينة بخلاف صالح المجموع، وهي التي تكفل، كما ينبه الكتاب دائماً، إتاحة فرص التعلم وصولاً إلى بلوغ هدف التغيير والإصلاح.
المؤلف
جوزيف ستغلتز أستاذ جامعي ذائع الصيت، وخاصة بعد فوزه بجائزة نوبل الدولية الرفيعة في علم الاقتصاد عام 2001، وعمله هو كبير الباحثين الاقتصاديين في معهد روزفلت، إلى جانب تخصصه أستاذاً للاقتصاد بجامعة كولومبيا في نيويورك.
البروفيسور بروس غرينوولد هو أستاذ علم المالية وإدارة الأصول الاقتصادية في كلية التجارة وإدارة الأعمال بجامعة كولومبيا، فيما يشغل مكانة أكثر من مرموقة في دنيا المال والأعمال في دوائر «وول ستريت» .
تأليف: جوزيف ستغلتز وبروس غرينوولد
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: جامعة كولومبيا، نيويورك، 2015
عدد الصفحات: 680 صفحة