نعيش اليوم أزمات فكرية حقيقية وسط ركود النافع وتراكم الغث، وبالحديث عن الأزمات أتحدث اليوم عن صناعة الكتب، فبينما يبدو العالم منشغلاً عنا بهمومه الكبرى، بتغيرات المناخ والطاقة وأزمة المياه والغذاء، ما زالت كتب على نسق - «تعلم الابتكار في يومين» - تحتشد على أرفف دور النشر، كما باتت دسائس الأيديولوجيات تشرئب متناقضةً مع الرسالة السامية للكتاب في نشر المعرفة، وغيرها من شجون كثيرة تستفز خواطر لا تسر الخاطر.
مما لا ريب فيه، أن طعم العناوين البراقة فخ تكتيكي لبعض القراء، ممن يقبلون على شراء كتب انطلاقاً من عناوينها، ثم يصابون بخيبة أمل كبيرة بعد قراءة المحتوى الفارغ، فالمتابع على سبيل المثال للمحتوى الأدبي العربي في السنوات الأخيرة، يرى زخم الكم ولا يفضي تنقيبه لأي كيف، عضلات لغوية وأشعار، وخيال عاطفي خصب، لا يقدم للقارئ في بعض حالاته أي معنى، رغم أن أغلب الروايات العالمية كان لها الأثر الكبير في تقديم محتوى معرفي بأسلوب روائي سلس، جعل بعضها تدرس في الجامعات.
لقد كنت في سابق عهدي ممن يقبلون على شراء كم هائل من الكتب، وكنت أقرأها جميعها لأجد أن كتاباً واحداً فقط أكسبني معرفة جديدة، أو معلومة ما زلت أذكرها وأستشهد بها وأحفظها عن ظهر قلب، ففي بعض دول العالم يعطى الكاتب المعروف بزخمه المعرفي تفريغاً طوال العام لتقديم فكر أو دراسة، سواء بقالب رواية أو كتب علمية، لأتساءل إن وجدنا هذه الفرصة، أي حقبة جديدة ستفتح كتائب الحبر الأسود على ضفاف الفكر الجديد؟
نحتاج لوعي ثقافي فكري حقيقي يحرك الراكد في مجتمعنا، فمن يأخذ فكره وأدبه وكتاباته وخواطره بجدية، ويترجمها كتباً ونظماً مؤثراً، سيكون قادراً على تأمل النور خارج الأسوار، وسيفهم المتغيرات التي سيصنع على إثرها القرار، ملهماً القراء الذين أغراهم طول الأمل بالإصلاح «في يومين»، كحال عنوان على ناصية كتاب أنيق المظهر وهش المخبر.