هبت نسائم الشتاء ولكن هل بنفس الأمكنة والأشخاص، هل مرت أمام بيتنا أم تخطته مراعاة للمشاعر، أم ما زال لهيب الحزن وحرقة الشعور أو دفن لونه الغبار وأصبح موجوعاً مهجوراً، هل طرقت أبوابه أم عجزت فالأبواب مؤصدة، لأنهم رحلوا ورحل خلفهم كل شيء وأبواب ارتدت أتربة الزمن وأهرامات من الرمال على جوانب الأبواب رسبتها رياح الأيام والليالي من نحت الحزن لقلوبنا، رحلوا ومات خلفهم كل شيء، فهنا كانوا وكانت حياة المكان مع الجيران وزيارة الأهل، حتى بقالة الحي تصبح وتغدو محملة بالزاد وطرقات الباب لخادمة الجيران محملة بصحون أمي التي أهدتهم كل يوم جمعة من فطورها المميز.

وفي يوم الخميس تعد وجبة الهريس اللذيذة، تستقبل الأبناء والأحفاد وتهدي منه الجار والمارة وكل فقير تعرفه، وهنا كان زاد الطيور من بقايا وجبة الغداء تضعه الخادمة في مكان مخصص برفقة أمي، بكاك الطير قبل البشر يا أمي، أصبحت الخطى ثقيلة حتى الطير لا يقوى الوقوف على جدرانه فلا أحد يروي عطشه، ولا فتات طعام حتى أوراق الشجر تحللت، وجذوع النحل انحنت لأنها اعتادت على سقياك ورعايتك، لا أحد سوى مسارات لرياح تائهة، فكيف الحياة من بعدك يا أمي أصبحنا بلا مأوى ولا أسوار تحمينا، نتيه في صحراء جرداء وفي سراب بلا ماء ولا زاد، أنت الوطن الذي رحل وتركنا مشردين بلا هوية.

 أصبحت ملامحنا تشيخ هرماً لأنها تعجز النسيان تحمل على أكتافها الكثير من الحنين والذكريات، ولعلنا نتشافى بالرضا ولكن نفقد مقابله الكثير لأنك أنت الأساس، انهار بعدك كل شيء، واليأس يخنقنا من حياة بلا روح، وأصبح كل شيء يفتقد اللذة حتى رائحة الخبز تلاشت وأصبحنا بلا قوت، الأيام بعدك باهتة ومضى العيد يا أمي كبقية الأيام بل أثقل علينا ضيافته، تشتت شملنا فلا فرحة ولا عطايا وعيديات الصغار نقصت وتفرقت جمعتهم، فأنت العطاء وعطاءك فرحة الأعياد بيديك المخضبة بالحناء، حتى أثواب العيد بلا ألوان فأنت لون الحياة وأنت الزينة والفرحة وأنت كل أعيادي التي رحلت.