في ضوء الفلسفات المعاصرة، يمكننا الاستفادة من نظرية «التفكيكية» للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، التي تشير إلى أن النصوص، بما في ذلك التراث، ليست ثابتة بل مفتوحة للتأويل المستمر. هذه الفكرة معقولة، وأراها أيضاً تنطبق على التراث الإماراتي الذي يمكن فهمه وإعادة تفسيره بطرق متعددة حسب الزمن والمكان.
عبر هذا المنظور، يصبح التراث أكثر من مجرد مجموعة من العادات والتقاليد؛ إنه نص حي يمكن للأجيال الحالية إعادة تفسيره وإعادة تشكيله، مما يعزز من مرونة الهوية الإماراتية وقدرتها على التكيف مع المتغيرات.
ويمكننا استلهام مفهوم «الذاكرة الانتقائية» الذي قدمه الفيلسوف «بول ريكور». بحيث يتم اختيار عناصر معينة من الماضي لتشكيل هوية ثقافية تعكس القيم والتطلعات الحالية. هذا الاختيار ليس عشوائياً بل يخضع لعمليات اجتماعية وسياسية تهدف إلى تعزيز التضامن الاجتماعي والشعور بالانتماء.
في دولة الإمارات، تُظهر أغنية «يا صبارة» مثلاً، وغيرها الكثير من الأغاني التراثية، كيف تُستخدم الرموز الثقافية مثل الشيوخ الكرام لترسيخ القيم الوطنية وتعزيز الشعور بالأمان والاحترام تجاه القيادة، تقول كلماتها:
يا صبارة
يا صبارة (1) ما دريتي (2)
عن خطار (3) لفوج (4)
قالت لفوني غبشة (5)
على خيول وبوش (6)
مصليين الجمعة
صقر ولد الشيوخ
ولكي يستمر التراث الإماراتي في لعب دوره الحيوي في تشكيل وحماية الهوية الوطنية، لا بد من وجود سياسات ثقافية قوية تُعنى بحمايته وتطويره.
هذه السياسات تشمل القوانين والتشريعات التي تُنظم عمليات الحفاظ على التراث وحمايته وصيانته، وتضمن استمراريته عبر الأجيال. ويجب أن تُركز السياسات على التعليم الثقافي، بحيث يتم دمج التراث في المناهج الدراسية بطرق تجعل الطلاب يشعرون بالانتماء والفخر بتراثهم.
وكذلك يجب دعم إنشاء مراكز بحوث تراثية تساهم في عمليات البحث والتنقيب والتوثيق المستمر للتراث، لضمان عدم فقدان أي جزء منه بسبب التطور السريع أو التغيرات الاجتماعية. وهذه المراكز البحثية تكون مهمتها جمع وتوثيق التراث الشفوي والمادي من ناحية، وأيضاً تقديمه بطرق معاصرة تضمن استمراريته في الذاكرة الجماعية من ناحية أخرى.
إضافة إلى ذلك، أرى أن تتضمن السياسات الثقافية برامج لدعم جميع الفنون التقليدية، مثل الشعر النبطي والموسيقى الشعبية، من خلال توفير منصات للفنانين والمبدعين لعرض أعمالهم واستكشاف سبل جديدة للتعبير عن التراث.
هذه البرامج يمكن أن تشمل أيضاً دعم الحرفيين التقليديين وتقديم حوافز لهم للحفاظ على الصناعات التقليدية، وأن يخصص صندوق لذلك، بحيث يتم تشجيع كل جهة أو هيئة لديها اهتمام بنشر التراث.
إن السياسات الثقافية التي تُعنى بحماية التراث لا تهدف فقط إلى الحفاظ على الماضي، بل تسعى إلى استخدام التراث كأداة للتواصل الثقافي وبناء الجسور بين الإمارات وثقافات العالم. من خلال تعزيز التراث وتقديمه بطرق تتناسب مع العصر الحديث، يمكن للإمارات أن تعرض هويتها الثقافية الفريدة على الساحة الدولية، مما يعزز من مكانتها كمركز للتبادل الثقافي والحضاري.
إن التراث الإماراتي ليس مجرد إرث من الماضي، بل هو جزء حيوي من الهوية الوطنية يتطلب سياسات ثقافية قوية لحمايته وتطويره.
من خلال تبني فلسفات جديدة في فهم التراث، مثل التفكيكية والذاكرة الانتقائية، ومن خلال تنفيذ سياسات تركز على التعليم، البحث، ودعم الفنون التقليدية، يمكن للإمارات أن تضمن استمرار تراثها الثقافي كجزء من هويتها الوطنية وأن تستخدمه كأداة للتواصل الثقافي على المستوى العالمي. هذا النهج سيعزز من قدرة المجتمع الإماراتي على مواجهة التحديات المستقبلية بثقة واستقرار، مع الحفاظ على جذوره الثقافية الراسخة.
هوامش:
1. صبارة: شجرة تمر الهندي تدعى الصبار
2. ما دريتي: ما علمت
3. الخطار: الضيوف
4. لفوج: زاروك
5. غبشة: الفجر
6. بوش: قافلة النوق