الحديث عن «صلالة» المدينة العريقة والرائعة بتاريخها وأهلها، ببحرها وجوّها وسهلها وجبلها، لا تكفيه أبداً هذه المقالات، ولكن لا بدّ لي أن أخرج بعضاً مما في قلبي لها من الودّ الطبيعي، وإن بعُدت المسافات بيننا فالقلب ترفرف أجنحته فوقها، ويحنُّ إليها ما بقي الملوان (الليل والنهار)، فلا تملّوا حديثي عنها، ولا تخافوا من السفر إليها إذا توكّلتم على الله وأخذتم بالأسباب والتزمتم بقواعد السير فاربطوا أحزمة الحيطة وانتبهوا غاية الانتباه ولا تسوقوا السيارات بليلٍ.

ومن كان متعباً أو مريضاً فلا داعي أن يخرج حتى يعافى وينشط فالطائرات كثيرة وشركات شحن السيارات متوافرة، لأنّكم لستم وحدكم في الشارع وحذارِ حذارِ من السرعة فربّ عجلةٍ أورثت ريثاً (مهلا) بل - وأسأل الله لي ولكم ولجميع المسافرين السلامة - قد تورث كفناً للمنبتّين (المسرعين) الذي لا يُبقون ظهراً ولا يقطعون أرضاً، وكم جرّوا على أهلهم وعلى الآخرين ويلاتَ حوادث لم تكنْ في الحسبان، وظنّي كله حسن وأملي لن يخيب بإذن الله في الشقيقة سلطنة «عمان»، الدولة الراقية العظيمة بأنها ستقوم بكلّ ما أُوتيت من قوةٍ لتحدّ من مخاطر الطُرق المؤدية إلى «صلالة».

أتابع معكم ما بدأته في ذكر ظفار في رحلة أمير الرحّالة الصادق «ابن بطوطة» عن سلطان «ظفار» وكان وصوله إليها في رمضان من عام 731هـ (وكلُّ ما بين القوسين من كلامي وليس من كلام ابن بطوطة) يقول: «للسلطان (وهو المغيث بن الفائز الرسولي ابن عم ملك اليمن) قصرٌ بداخل المدينة (المنصورة) يُسمّى الحصن عظيمٌ فسيحٌ، والجامع بإزائه، ومن عادته أن تضرب الطبول والبوقات، والأنفارُ والصرنايات (آلتان موسيقيتان ينفخ فيهما) على بابه كل يومٍ بعد صلاة العصر؛ وفي كل يوم إثنين وخميس تأتي العساكر إلى بابه فيقفون خارج المشور (مصطلح قديم مغربي ويعني مقر الحكومة) ساعةً وينصرفون، والسلطان لا يخرج ولا يراه أحد إلا في يوم الجمعة، فيخرج للصلاة ثم يعود إلى داره.

ولا يمنع أحد من دخول المشور، وأمير جندار (الحرس الأميري وهي لفظة فارسية) قاعدٌ على بابه، وإليه ينتهي كلُّ صاحب حاجة أو شكاية، وهو يطالع السلطان، ويأتيه الجواب للحين، وإذا أراد السلطان الركوب خرجت مراكبه من القصر وسلاحه ومماليكه إلى خارج المدينة، وأتى بجمَلٍ عليه مِحمل مستور بسترٍ أبيض منقوش بالذهب (في هذا إشارة إلى بعض ما يوضع على الإبل من الزينة العمانية)، فيركب السلطان ونديمه في المحمل بحيث لا يُرى. وإذا خرج إلى بستانه وأحبّ ركوب الفرس ركبه ونزل عن الجمل».

قلتُ: من يقرأ هذا التفصيل العجيب لمراسم خروج السلطان في ذلك الوقت سوف يدرك كم كانت «البروتوكلات السلطانية» معقدة وتؤدي بطبيعتها إلى هيبة السطان في قلوب المقيمين والزائرين حتى «ابن بطوطة» لم يستطع إغفالها ولهذا ينبغي التنبيه إلى أنّ العرب سبقوا الأمم الأخرى في تنظيم أمور الحكم ووضع المراسم السلطانية المناسبة والتي تلاشت مع الوقت بسبب الانفتاح وتغير الأحوال فلم يبق منها إلا القليل في حين نجد «البروتوكلات» الملكية البريطانية مثلاً لا تزال قائمة منذ قرونٍ وإن طرأ عليها بعض التعديلات.

سبب تسمية «صلالة»

لقد قرأت كثيراً حول هذا الموضوع ولم أجد تفسيراً مناسباً قريباً يمكن قبوله والإقرار به، لأنه لم يكن موجوداً في القرن الثامن عندما زار «ابن بطوطة» منطقة «ظفار»، ولو كان الاسم موجوداً لذكره هو ومن جاء من قبله من المؤرخين والجغرافيين.

وكذلك لا نجد هذا الاسم في كُتُب ابن ماجد من بعدُ التي اطلعت عليها، ما يدلُّ على أنّ الاسم متأخر عنهما، وهذا قد يحصل مع زوال دولةٍ ونشوء أخرى كما ذكرت لكم أيها الأعزاء فـ«ظفار» كانت تسمّى «ظفار الحبوض» في عهد الحبوضي بعد بناء مدينته «المنصورة»، وهكذا تتغير أسماء المدن وهناك شواهد كثيرة على ذلك.

وقد حاول كثيرون الوصول إلى أصل تسميتها ووجدت أقربها للتصديق إن صح استخدام هذه المفردة عند أهالي «ظفار» ما ذكره صاحب معجم «مقاييس اللغة» عن أصل المفردة اللغوي يقول: «الصاد واللام يدلُّ على ندىً وماء قليل، فالصَّلّة وهي الأرضُ تسمَّى الثَّرَى لِنداها (وتجمع على صِلال)، على أنَّ من العرب من يسمِّي الصَّلّة التُّرابَ الندِيّ، ولذلك تُسمَّى بقيَّةُ الماء في الغدير صُلْصُلة، ومن الباب: المَطَر وهو ما وقع منه شيءٌ بعد شيء، ويقال للعُشْب المتفرِّق لأنَّه يسمَّى باسم المطرِ المتفرِّق.

قلتُ: من عرف طبيعة «صلالة» لا يستبعد هذا الاشتقاق لاسمها، إلا أن تكون المفردة في لغة أهلها لها معنى آخر، وبعد كل ما ذكرت يبقى اللغز الذي سنحاول حلّه في وقت آخر وهو متى تم إطلاق الاسم عليها؟ وأتمنى لكلّ مستخدمي طريق «صلالة» الأمن والسلامة.