المسلسلات التاريخية يكثر فيها التهويل والتزييف وتقع كثيراً فريسةً لهوى صاحب السيناريو ولو كانت الأخبار صحيحةً موثقةً من جامعها المؤرخ، وما ذلك إلا لطلب الإثارة وجذب المشاهدين ولو كان على حساب الحقيقة التاريخية التي لا يختلف عليها اثنان من المؤرخين. قاتل الله الطمع عندما يتملّك قلوب الضعفاء من الكُتّاب الذين فُتنوا بحبّ الشهرة وترويج أعمالهم والناس في غفلةٍ عن ما يصنعون، ولكنّ الله يقيّض في كل زمانٍ رجالاً من أهل التحقيق في التاريخ يبيّنون صوابه ويظهرون ما التبس أو خفي على العامة من أخباره التي قد تكون بعيدةً جداً عن متناول أيديهم وهو السبب الرئيس وراء رواج هذه الأكاذيب في أول خروجها كما نراه في كثيرٍ من الروايات والأعمال التلفزيونية.
السلطان سليمان القانوني (1494-1566) من أشهر سلاطين العالم في الماضي إلى يومنا هذا، ولا يُسمّى في الغرب إلا السلطان العظيم بسبب ما حقّقه من انتصاراتٍ وعظمةٍ عليهم جعلت من الدولة العثمانية تصل إلى أقصى قوتها خلال سنوات حكمه، وقد تعرض تاريخه لكثير من التشويه خاصةً من أعدائه القدامى ومن كتّاب السيناريو المعاصرين فجعلوه زير نساء وهو قد قضى أربع عشرة سنة من حكمه خارج قصره في ساحات الوغى (القتال)، ولم يكتفوا بذلك بل أساءوا إلى زوجاته الكريمات اللاتي لا يعرف عنهنّ أحدٌ ولم يُسجل التاريخ إلا أسماءهن ولم يكتب مؤرخٌ في عهد السلطان سليمان ولا قريبٍ منه تاريخ حريمه من أمثال (روكسلانة) المفترى عليها لأنّ هذه المنطقة محرّمة على عامة الناس وخاصّتهم فكيف الأمر بمن يكتب تفاصيل حياتهنّ يوما بيوم وكأنه عاش معهنّ بعد مرور خمسة قرون، أليس هذا الكذب الصُراح والزور الذي حرّمه الله ورسوله؟!.
أم كيف تُتهم (روكسلانة خرّم سلطان) أو كما تسمّى هيام بالتآمر على وليّ عهد السلطان وبكره الأمير شاهزاده مصطفى (1515-1553) حتى خاف منه والده السلطان فقتله بسبب وشايات (روكسلانة)، حيث استغلت عنصر الإشاعات والرسائل المكذوبة وأغرت رئيس وزرائه (رستم باشا) ليقنع السلطان بحقيقة خيانة نجله مصطفى له وتعاونه مع الأعداء الصفويين من أجل الاستيلاء على السلطة فغضب السلطان منه وأمر بإعدامه! قلتُ : من أين علم مؤرخو زماننا بكل هذه التفاصيل إلا أن يدّعوا أنهم أدركوا عهده وهذا كذبٌ أو أنهم يزعمون أنهم يوحى إليهم وهذا كفرٌ أو أنهم استعانوا بجماعة تحضير الأرواح فحضّروا أرواح السلطان سليمان وحريمه وعلموا منهم ما حصل وهذا جنونٌ لا يقبل به عاقل، فلم يبق إذن إلا أن يقولوا نحن نتخرّص ونتبع الظنون وهذا ما نظنه قد وقع، فنقول لهم حينئذ: زعموا مطيّة الكذب وإنّكم لكاذبون!.
أما مقتل الأمير شاهزاده مصطفى فهو لا شكّ قد وقع حقيقةً وهو من التاريخ المأساويّ من تاريخ العثمانيين، وددتُ أنّه لم يقع في عهد والده السلطان سليمان، وإنّنا لا نعلم ماذا حصل في ذلك اليوم المشؤوم ولماذا أمر السلطان بإعدامه وما هي الأدلة القطعية على خيانته، وقد قيل إنّ الأمير مصطفى قدم إلى أبيه للاعتذار وتبيين موقفه من الإشاعات حوله ولكنّ السلطان قد قُضى الأمر لديه وتأكد منه وأخذ الفتوى بقتله من شيخ الإسلام أبي السعود محمد محي الدين العمادي (1493-1574) حفاظاً على مملكته وعدم دخول الناس في فتنةٍ ودمارٍ كحال كل مملكةٍ إذا وقعت الفتنة والشقاق بين الأسرة المالكة فيها، وقد بكاه السلطان حزناً عليه بكاء قلب الوالد، ولكن عندما أمر بإعدامه، فذلك لحفظ البلاد من الشر والفتن، والله أعلم بخفايا الصدور وقد أفضوا إلى ما عملوا رحمهم الله جميعاً.