أعرف أصدقاء لم يكن الكتاب من جملة أولوياتهم في الحياة، ولم يخطر على بالهم أن يقتنوا كتاباً أو يفتحوا صفحةً من أوراقه، بل يظنّ بعضهم أنّ دفع المال في شراء الكُتب مضيعةٌ له أيّ مضيعة..
وقد سمعتهم يقولون هذا مراراً وتكراراً في الزمن الماضي، فهم لا يفكرون إلا في جمع الدراهم وزيادة الأرصدة المصرفية وشراء العقارات المربحة أو البحث ليل نهار عن فرصةٍ سانحةٍ لأي وظيفةٍ ذات مكانةٍ مجتمعية تنقلهم من مكانةٍ إلى مكانةٍ أعلى، فهذا ديدنهم وهذا غاية مرادهم، حتى إذا جاء وقت الزواج رأيت بعضهم من العقلاء الطيبين يدخل المكتبة ويقتني بعض الكتب المفيدة المعينة على فهم الأسرار الزوجية التي يجهلها ويريد أن يتعلمها قبل دخوله لما يُسمّى عند العامة بـ(القفص الذهبي) ..
والذي يعنون به الزواج، وهي تسمية لا تصحّ كما تعلمون، لأنّ الزواج نعمة وحريّةٌ في شرع الله، وليس تقييداً ولا سجناً بل هو انطلاق إلى فضاء واسع من المشاركة والتعاون والتضحية والسعادة والاستمتاع بمتع الحياة الحلال وإبقاء السلالة الإنسانية، وفيها أيضاً رزقٌ كفله لهم الخالق جل جلاله.
من هؤلاء الأصدقاء في ثمانينات القرن الماضي - التي لم يكن فيها إنترنت ولا مواقع التواصل الاجتماعي - رأيتُ أحدهم يشتري كتاب »تحفة العروس« للكاتب محمود مهدي الاستانبولي (ت:1999)، رحمه الله، فقلتُ له: ماذا تقرأ ولم أعهدك من أهل الكتاب ولا تحب أن تقتنيها؟!
فقال: سأتزوج قريباً وأحببت أن أتفقه قليلاً في أمر ديني ودنياي، وقد وجدت ضالتي في هذا الكتاب، وهو جريء بعض الشيء فيما يخص العلاقات الزوجية ومُتعها. فقلتُ له: هذا الكتاب كبير فكيف استطعت قراءته؟! فقال: فيه من الحياة الخاصة بين الزوجين التي جعلتني أنجذب إليه وأكمله.
فقلت: هو هذا إذن! ثم وجدت هذا الرجل بعد مرور السنوات من أصحاب الكتب وعجبت من اهتمامه بها واقتنائه لها، وأصبحت له مكتبة كبيرة في بيته، بعد أن كان لا يحبُّ الكتاب ولا ينظر إليه ولا يدور أصلاً في دوائر اهتمامه.
إنها البداية أيها الأعزاء التي تحوّلنا من أناس غير قرّاء إلى قومٍ محبين للقراءة مجتهدين في تحصيلها، ومهتمين باقتناء الكتب المفيدة التي تجلب لنا السعادة والعلم والطاقة الإيجابية، وقد تكون هذه البداية من أي كتابٍ في أي فنٍّ يجذبك إلى القراءة، فتكون من عاداتك التي لا تتخلى عنها، وقد يكون هذا الكتاب كتاباً خارجاً عن المألوف في زمن تأليفه مثل كتاب »تحفة العروس« الذي جعل من صديقي قارئاً نهماً لا يملّ من القراءة.
وأترككم مع كلماتٍ تُكتب بماء الذهب لأبي عثمان عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ (255 هـ) يقول: »الكتاب هو الجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يغريك والرفيق الذي لا يملّك، والمستميح الذي لا يسترثيك والجار الذي لا يستبطيك والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق ولا يحتال لك بالكذب.
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بنانك وفخم ألفاظك وبجح نفسك (أفرحها) وعمر صدرك ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر مع السلامة من الغرم (الدين) ومن كد الطلب ومن الوقوف بباب المكتسب بالتعليم، والكتاب هو الذي يطيعك في الليل كطاعته بالنهار، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتل بنوم ولا يعتريه كلال السهر«.