لا يخفى على أحد كيف قلبت الرقمنة (التحول الرقمي السريع) عمليات الشركات وأنظمتها ونماذج أعمالها رأساً على عقب. ولذلك، أصبحت قدرة الشركات على إدارة المخاطر، وجني الثمار الهائلة التي يمكن أن تقدمها التقنيات الرقمية، تعتمد بدرجة كبيرة على الإجراءات التي تتخذها في إطار خمسة مجالات رئيسية.
أولاً، تمكِّن الرقمنة المديرين من تخصيص وتوزيع رأس مال الشركة والعمالة بشكل أفضل - وبصورة آنية. حيث تعمل الشركات التي تتسم بالكفاءة على مراجعة وتحديث عملياتها بانتظام من خلال ثلاث طرق على الأقل: تبسيط العمليات الحالية، واعتماد أفضل الممارسات من خارج مؤسساتها، وتحديد الاستخدام الأكثر إنتاجية لأصولها. ومن شأن التكنولوجيا الرقمية أن تعزز كل هذه الأنشطة.
على سبيل المثال، تعتمد شركات دور السينما بالفعل على نشر رأس المال البشري بناء على اتجاهات الطلب في الوقت الفعلي: في الولايات المتحدة، تشكل معلومات مبيعات التذاكر ومراجعات الأعمال على وسائل التواصل الاجتماعي بعد إصدارها في الساحل الشرقي، قرارات التوظيف في الساحل الغربي.
ومن الممكن تنفيذ (أو تطوير) نهج مماثل في مجموعة واسعة من القطاعات، مما يعزز الكفاءة والإنتاجية. وسوف تنمو فوائد ذلك تدريجياً، حيث تغيّر الشركات من ممارساتها فيما يتعلق بالتوظيف لاستهداف مرشحين ذوي خبرات مناسبة.
لكن في حين تساعد مخزونات البيانات السريعة النمو فِرق الإدارة، فإنها تهدد أيضاً بتعقيد الصورة. ولحسن الحظ، من شأن الرقمنة أن تساعد المديرين على تنظيم البيانات ومقارنتها لتحسين عملية صنع القرار. وهذا هو المجال الرئيسي الثاني.
في الماضي، كانت فرق الإدارة تتعامل مع قدر أقل بكثير من المعلومات. حيث كانت الشركات تميل إلى العمل في إطار اختصاص واحد أو عدد قليل من الاختصاصات. ويستمع صانعو القرار في الشركة إلى وجهات نظر مجموعة فرعية من أصحاب المصلحة، مثل المساهمين (في الاجتماعات العامة السنوية أو في محادثات المجموعات الأصغر) والموظفين (من خلال الاستطلاعات الداخلية).
اليوم، تعمل الشركات بشكل متزايد عبر اختصاصات متعددة، وتستمع إلى مجموعة أوسع نطاقاً من أصحاب المصلحة - بما في ذلك العملاء وأعضاء المجتمع - خاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
وبالفعل، يجبر الضغط العام الشركات على الكشف عن مزيد من التفاصيل حول مصادر منتجاتها، بما في ذلك ظروف العمل ومتوسط الأجور والمقاييس البيئية، مثل كمية المياه المستهلكة وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ومع قدرة الموظفين على التعبير عن شكاواهم على منصات رقمية خارج نطاق الشركة - مثل جلاس دور، وبلايند، وموقع TheLayoff.com - لم يعد للشركات مكان للاختباء.
في مثل هذه البيئة، يجب أن يكون المديرون قادرين على تنظيم البيانات وتفسيرها لأنفسهم، وتحديد الاتجاهات الاقتصادية والجيوسياسية والاجتماعية على النطاق الأوسع، واستخدام المعلومات التي يحصلون عليها لتكييف استراتيجياتهم بوتيرة سريعة.
ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي لهم تشجيع المشاركة المثمرة مع جميع أصحاب المصلحة والاستفادة من التقنيات الرقمية - والبيانات التي توفرها - لاستئصال أوجه القصور، وإزالة ما يزيد عن الحاجة، وتبسيط العمليات المرهقة.
تتمثل الطريقة الثالثة التي يجب أن تطبق بها المنظمات الرقمنة في تعزيز المرونة التنظيمية فيما يخص الاستجابة للتهديدات والفرص الخارجية.
على وجه الخصوص، أدى تصاعد التوترات بين الصين والغرب إلى إثارة شبح تقسيم التجارة والتكنولوجيا وأنظمة العملة. وقد نشهد حتى ظهور ما يسمى «بانقسام الإنترنت»، الذي يتسم بوجود بيئتين رقميتين متنافستين، بقيادة الولايات المتحدة والصين، ببروتوكولات IP مختلفة. وهذا من شأنه أن يمثل تحدياً خطيراً للعديد من الشركات، التي صُممت للعمل في إطار نظام واحد خاضع للعولمة، وأنظمة مركزية للتمويل والمشتريات والتوظيف.
وسط التغير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي السريع، تحتاج المنظمات إلى اكتساب قدر من المرونة في نماذج أعمالها وعملياتها. في الواقع، من الممكن أن توفر التقنيات الرقمية تلك المرونة بطريقة فعالة من حيث التكلفة، بحيث تخفض تكاليف الاحتكاك وتخفف من حدة المخاطر التشغيلية السلبية، وفي الوقت ذاته، تمكن الشركات من التجارة، وتوفير رؤوس الأموال وتوزيعها، بالإضافة إلى التوظيف في ظل نظام مقسم أو متشعب.
من شأن الرقمنة أيضاً أن تمكن الشركات من تخصيص عروضها - وأسعارها - بما يتناسب مع المستهلكين الأفراد. وهذا هو المجال الرئيسي الرابع.
لطالما اعتمدت شركات التأمين على الحياة على عوامل فردية في تسعير وثائق التأمين التي تقدمها، مثل الحالة الصحية ونمط الحياة والجداول الأكتوارية. ونظراً لسهولة عملية جمع وتحليل البيانات العالية الجودة حول المستهلكين مع مرور الوقت، ستتمكن مجموعة واسعة من الشركات من اتباع نهج مخصص مماثل فيما يخص التسعير.
تتبع بعض الصناعات بالفعل نهجاً مخصصاً نسبياً. لنأخذ على سبيل المثال المنتجات المالية، مثل الرهون العقارية وقروض السيارات. اليوم، يُفرض ذات معدل الفائدة على الأشخاص الذين تنطبق عليهم ذات السمات. ومع زيادة الرقمنة، يصبح من الممكن فرض سعر فائدة على العملاء الأفراد بحيث يتماشى بشكل أفضل مع ملف المخاطر الذي يمثلهم، وهذا يشمل مجموعة من المقاييس من الأصول إلى متوسط العمر المتوقع.
في الواقع، إذا عملت الشركات على تصميم وتنفيذ استراتيجيات رقمنة فعالة في هذه المجالات الأربعة، فسوف تعزز الإيرادات (من خلال توفير المزيد من السلع والخدمات في أيدي العملاء بشكل أسرع) وتخفض التكاليف (عن طريق تبسيط عمليات التوظيف، والتصنيع، والإنتاج، واللوجستيات). أما بالنسبة إلى إعادة التفكير في كيفية توزيع الزيادة في الأرباح الناتجة عن الرقمنة، فهذه هي الأولوية الخامسة.
عادة ما تقسم الشركات الأرباح بين تخفيف عبء الديون، وإعادة الاستثمار، والمدفوعات للمساهمين في صورة أرباح وعمليات إعادة شراء، أو تخزينها لأغراض استراتيجية طويلة الأجل.
ولكن نظراً لأن رأسمالية المساهمين تفسح المجال لرأسمالية أصحاب المصلحة، فإن نطاقاً أوسع من مجموعات المصالح - مثل الموظفين والمجتمعات المحلية - يتوقعون الحصول على فوائد. كما أن توسع الأدوار التي تلعبها الشركات في مجالات مثل التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية - بالإضافة إلى الارتفاع الوشيك في البطالة البنيوية بسبب الأتمتة والرقمنة - يعزز هذا التوقع.
في حين أكدت جائحة «كوفيد 19» هشاشة العديد من نماذج الأعمال، فقد زادت أيضاً من احتدام السباق نحو اعتماد التقنيات المتطورة. لكن الاعتماد هو الخطوة الأولى فقط. وسوف تحدد كيفية تطبيق هذه التقنيات، عبر المجالات الرئيسية الخمسة الموضحة هنا، من يصل إلى خط النهاية - ومتى.