الواقع أن إحكام السياسة النقدية أثناء الخروج من الجائحة سيخلف عواقب أشد خطورة من المعتاد، فبسبب تكديس البنوك المركزية لقدر كبير من الديون الحكومية، أصبح متوسط آجال استحقاق السندات الحكومية أقصر فعلياً، وعلى هذا فقد أصبحت الميزانيات العمومية في القطاع العام أكثر حساسية من المعتاد للتغيرات في أسعار الفائدة القصيرة الأجل. لن تكون الحكومات راضية عن أداء القائمين على البنوك المركزية في بلدانها بسبب إحكام السياسة، لأن هذا من شأنه أن يخلف عواقب مالية مباشرة.

بالإضافة إلى هذا، سيكون إحكام السياسة النقدية في العالم المتقدم، وخاصة في الولايات المتحدة، غير مرغوب إلى حد كبير من منظور الأسواق الناشئة، فلا تزال أغلب هذه الأسواق تناضل للسيطرة على الجائحة، ومعدلات التطعيم ضد كوفيد-19 لديها أقل كثيراً من نظيراتها في أوروبا وأمريكا الشمالية، على الرغم من العلامات التي تشير مؤخراً إلى أن البلدان الثرية أصبحت الآن أكثر استعداداً لتقاسم مخزوناتها من اللقاحات.

في الاستجابة للجائحة ذاتها، واجهنا جميعاً تحديات مماثلة، وكان مزيج السياسات التي استخدمتها الحكومات هو ذاته في عموم الأمر. أثناء فترة الخروج من الجائحة، قد يتغير كل هذا، فالتدابير التي قد تكون منطقية في البلدان، حيث معدلات الإصابة بعدوى كوفيد-19 منخفضة والديون العامة تحت السيطرة، ربما تؤدي إلى كارثة اقتصادية إذا استعانت بها بلدان أخرى.

من هنا، نرى الدعوة إلى تطبيع السياسة النقدية «بشكل تدريجي للغاية»، وإن كان يؤكد أيضاً، على نحو يوافق التوقعات، على أولوية السيطرة على التضخم واستقلالية البنوك المركزية. وربما يضيف أننا سنحتاج إلى المزيد من تنسيق السياسات على المستوى الدولي، وهو أمر نادر الحدوث خلال فترة العام ونصف العام الأخيرة. وعلى هذا فإن بنك التسويات الدولية ذاته لديه مهمة يجب أن يضطلع بها.

دأب الناس لعقد من الزمن أو نحو ذلك على استخدام كلمة «exit» في اللغة الإنجليزية كلاحقة. كان المصطلح «Grexit» أول تركيبة من هذا النوع، في الإشارة إلى خروج اليونان المحتمل من منطقة اليورو، ثم ظهر المصطلح «Italexit» (خروج إيطاليا) لفترة وجيزة، وأعيد إلى الحياة مؤخراً على اليمين الإيطالي، لكن لم يتحقق أي منهما، كما لم يتحقق المصطلح «Frexit»، أو انسحاب فرنسا الأحادي الجانب من الاتحاد الأوروبي. كانت السياسية اليمينية المتطرفة مارين لوبان تغازل هذه الفكرة في السابق، لكنها تخلت عنها بعد ذلك. وحصل المرشح الوحيد الذي أيد هذه الفكرة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017، فرانسوا أسيلينو، على 0.9% من الأصوات فقط.

يبدو أن مثل هذه المصطلحات تُـنَـفِّـر معظم سكان أوروبا القارية. حتى يومنا هذا، لم يتحقق على أرض الواقع سوى المصطلح «Brexit» (خروج بريطانيا)، حتى برغم أن استطلاعات الرأي في الشهر السابق للاستفتاء في المملكة المتحدة في يونيو 2016 أظهرت أن عدد الناخبين الفرنسيين غير الراضين عن الاتحاد الأوروبي كان أكبر من نظرائهم البريطانيين، بهامش 61% إلى 48%.

كل مصطلحات الخروج هذه، المحتملة منها والفعلية، اعتبرها أغلب أهل الاقتصاد غير مرغوبة. الآن ظهر مصطلح آخر قيد المناقشة يأمل الجميع أن يحدث: «Pandexit» (الخروج من الجائحة). يلخص هذا المصطلح المركب فكرة متفائلة مفادها أننا نستطيع قريباً أن نأمل في تجاوز جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، والعودة إلى تقبيل المعارف الـعَـرَضيين (على الخد على الأقل) وحشر أنفسنا كالسردين في عربات الترام والقطارات في المدن من نيويورك إلى طوكيو.

لا شك أن العواقب الاقتصادية الأولية المترتبة على العودة إلى التفاعلات الاجتماعية الطبيعية ستكون إيجابية. تشير تقديرات الباحثين في بنك التسويات الدولية إلى أن الجائحة تسببت في خسارة 8% من الناتج في البلدان المتقدمة في عام 2020، وتتوقع انخفاضاً إضافياً بما يزيد قليلاً على 2% هذا العام. يجب أن يؤدي تخفيف القيود المفروضة على السفر وغير ذلك من القيود إلى التعافي القوي في عام 2022، وإن كان نطاق هذا التعافي سيكون متفاوتاً بدرجة كبيرة بين البلدان اعتماداً على معدلات الإصابة بالعدوى والتطعيم. وبالطبع، قد تُفضي زيادة عامة في حالات العدوى أو عودة العدوى إلى اندلاع موجة ثالثة من الآلام الاقتصادية إذا استلزم الأمر فرض المزيد من القيود على الأنشطة.

علاوة على ذلك، لن تكون كل الفوائد الاقتصادية المترتبة على الخروج من الجائحة صِـرفة خالصة من الشوائب. الواقع أن القائمين على البنوك المركزية، البارعين في تحويل الفرص إلى مشاكل، بدأ القلق يساورهم بالفعل، فرغم أن السيناريو الاقتصادي الأساسي الذي يتصورونه إيجابي، فإنهم يرون مخاطر كبرى. قال مدير عام بنك التسويات الدولية أوجستين كارستينز مؤخراً: «لا يزال صناع السياسات يواجهون تحديات رهيبة، فالديون العامة والخاصة مرتفعة للغاية والعواقب السلبية المترتبة على الجائحة ضخمة».

النقطة الأساسية التي يركز عليها كارستينز هي أن الضرر الاقتصادي الذي أحدثته جائحة كوفيد-19 خففته «مواءمات غير مسبوقة في سياسات الاقتصاد الكلي»: أسعار فائدة شديدة الانخفاض وجرعات ضخمة من التيسير الكمي، إلى جانب دعم مالي «وافر». كانت درجات مساعدة الميزانية متفاوتة من بلد إلى آخر، فكانت في الولايات المتحدة أكبر كثيراً مقارنة بحالها في أوروبا، على سبيل المثال. لكن الديون الحكومية ارتفعت بشكل حاد في كل مكان، والآن بلغت مستويات غير مسبوقة في بلدان مثل إيطاليا واليابان.

على هذه الخلفية، حدد بنك التسويات الدولية سيناريوهين خطيرين على الجانب السلبي. الأول وبائي في الأساس: حيث قد تظهر متحورات جديدة لفيروس كورونا، فيستلزم الأمر المزيد من عمليات الإغلاق والدعم المالي، وهو ما قد لا يتسنى لبعض الحكومات. لكن في اعتقادي أن المزيد من عمليات الإغلاق سيكون مستحيلاً على المستوى السياسي. وعلى هذا، فإذا انتشرت طفرات فيروسية جديدة بسرعة، فسوف يكون لزاماً علينا أن نتدبر أمورنا قدر المستطاع، ونأمل أن تساعد اللقاحات في التقليل من الوفيات الإضافية.

يتمثل السيناريو الثاني على الجانب السلبي، الذي أعتبره أكثر منطقية وترجيحاً، في اشتداد ضغوط الأسعار الحالية وارتفاع التضخم إلى مستويات أعلى، الأمر الذي يتطلب في النهاية استجابة نقدية. بلغ تضخم أسعار المستهلك 5.4% خلال العام السابق لشهر يوليو، وارتفع مؤشر Baltic Dry Index، الذي يتتبع أسعار شحن السلع الجافة بنحو 170% هذا العام، وبدأت القيود على العرض تظهر في العديد من المناطق.

ينبئنا الخط الرسمي الذي يتبعه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وغيره من البنوك المركزية بأن هذه الزيادة التضخمية مؤقتة سريعة الزوال، ولكن كما يقول المثل الفرنسي: «لا شيء أكثر دواماً من المؤقت». إذا كان إجماع البنوك المركزية الحالي مجانباً للصواب، كما يعتقد وزير الخزانة الأمريكي السابق لاري سمرز، فقد يحمل لنا المستقبل بعض المتاعب.

 

* رئيس مجلس إدارة مجموعة نات ويست (NatWest Group)