ربما تمثل سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن الاقتصادية والخارجية انحرافاً حاداً عن سياسات سلفه دونالد ترامب، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الصين، نجد أن بايدن حافظ إلى حد كبير على الموقف المتشدد الذي تبناه ترامب، حيث رفض على سبيل المثال إبطال زيادات الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الصادرات الصينية وتحذيره من فرض المزيد من التدابير التجارية العقابية.

هذا يعكس التشدد الواسع الانتشار في مواقف الولايات المتحدة تجاه الصين. عندما سـألتْ مجلة فورين أفيرز (Foreign Affairs) مؤخراً كبار الخبراء في الولايات المتحدة ما إذا كانت «السياسة الخارجية الأمريكية أصبحت معادية للصين بشكل مبالغ فيه»، نفى ما يقرب من نصف المستجيبين (32 من أصل 68) ذلك أو نفوه بشدة، مما يشير إلى تفضيلهم لموقف أمريكي أكثر خشونة وتشدداً في التعامل مع الصين.

من منظور أهل الاقتصاد، الذين يميلون إلى رؤية العالم من منظور إيجابي في المجمل، يُعد هذا لغزاً محيراً، ذلك أن البلدان بوسعها أن تجعل نفسها والبلدان الأخرى في حال أفضل من خلال التعاون وتجنب الصراع.

يتمثل التطبيق الأشد وضوحاً لهذا المبدأ في المكاسب التي تعود على البلدان من التجارة، ضروريات الحياة في نظر الاقتصاديين المحترفين. فمن المفيد لكل بلد في عموم الأمر أن يفتح أسواقه المحلية للآخرين، لكن ذات الفكرة تمتد أيضاً إلى مجالات السياسة، حيث قد تنشأ التوترات بين المصالح المحلية والعالمية. صحيح أن البلدان من الممكن أن تنتهج سياسات إفقار الجار، مثل تقييد الوصول إلى الأسواق المحلية لتحسين معدلات التبادل التجاري، أو امتطاء موجة المنافع العامة العالمية مثل سياسات إزالة الكربون، لكن ألن يكون من الأفضل لو امتنعت عن مثل هذه التصرفات حتى يتسنى لها جميعاً تحسين أحوالها؟

على النقيض من هذا، يميل الاستراتيجيون الجيوسياسيون إلى رؤية العالم عوضاً عن ذلك من منظور المحصلة صِـفر. تتنافس الدول القومية على بسط النفوذ - القدرة على إخضاع الدول الأخرى لإرادتها وملاحقة مصالحها دون عوائق - وهو أمر نسبي بالضرورة، فإذا كانت دولة ما تتمتع بقدر أكبر من النفوذ، فلا بد أن تكون الدولة المنافسة لها أقل نفوذاً. مثل هذا العالم صِـدامي بالضرورة، حيث تتحايل القوى العظمى (الولايات المتحدة) أو القوى الصاعدة (الصين) لبسط هيمنتها الإقليمية والعالمية.

في مقال حديث، يقدم جون ميرشايمر من جامعة شيكاغو تفصيلاً قوياً لهذا الرأي. كان ميرشايمر بين أولئك الذين شاركوا في الاستطلاع الذي أجرته مجلة Foreign Affairs والذين اختلفوا بشدة مع الاقتراح بأن سياسة الولايات المتحدة ربما أصبحت عدائية بشكل مفرط تجاه الصين. كتب ميرشايمر: «كل القوى العظمى، سواء كانت ديمقراطية أو غير ذلك، ليس لديها فرصة تُـذكَر للاختيار غير أن تتنافس على القوة وفرض النفوذ في إطار ما يُعتبر في الأصل مباراة محصلتها صِـفر». الواقع أن التداعيات التي تنتظر العلاقات الأمريكية الصينية قاتمة، فمن المحتم أن تكون الصين راغبة في توسيع نفوذها، وليس أمام الولايات المتحدة خيار سوى محاولة احتوائها. يشكل هذا المنظور تحدياً مهماً للاقتصاديين وغيرهم ممن يؤمنون بإمكانية إقامة عالم مستقر، وسلمي، وتعاوني إلى حد كبير، حيث يتسنى للولايات المتحدة والصين أن يزدهرا معاً.

من الواضح أن المنظرين «الواقعيين» للعلاقات الدولية، مثل ميرشايمر وزميلي في جامعة هارفارد ستيفين والت، على صواب عندما يسوقون الحجج ضد الافتراض «الليبرالي» بأن الأسواق المفتوحة في الولايات المتحدة والتعددية المستندة إلى القواعد كفيلة بإنتاج صين تبدو «أشبه بنا». ربما ساعدت سياسة الارتباط التي انتُـهِـجَـت حتى تولت إدارة ترامب السلطة الصين على أن تصبح أكثر ثراء، لكنها لم تجعلها أكثر ديمقراطية ولا أقل ميلاً إلى التنافس على السلطة والنفوذ.

لكن هل تعني الصين التي تتبنى نظاماً اقتصادياً وسياسياً مختلفاً ومصالح استراتيجية خاصة نشوب صراع حتمي مع الغرب؟ ربما لا. تتوقف حجة الواقعيين حول رجحان أو تفوق القوة على افتراضات تحتاج إلى توثيق.

أولاً، في حين قد تعطي الدول الأولوية للأمن الوطني والبقاء قبل أي شيء آخر، فهناك فجوة كبيرة بين تحقيق هذه الأهداف الضيقة وتعظيم القوة، فسوف تظل الولايات المتحدة آمنة من الفناء أو الغزو حتى بدون وجود عسكري في كل قارة. زعم المؤرخ ستيفن ويرثايم أن الرؤية التوسعية للسياسة الخارجية الأمريكية كانت في تنافس دائم مع نهج أكثر تحفظاً، والذي جرى تصنيفه على نحو مضلل ولا يخلو من ازدراء على أنه «انعزالية». وسوف تظل وحدة أراضي الصين حقيقة ثابتة بلا منازع حتى بدون قعقعة السيوف في مواجهة الجيران. بعيداً عن خط أساسي من الأمن، يتنافس السعي وراء بسط النفوذ مع أهداف وطنية أخرى، مثل الازدهار الاقتصادي المحلي، والتي تتطلب قدراً أقل من التنمر على المسرح العالمي.

من الصحيح، كما يحب الواقعيون أن يشيروا، أن العالم يفتقر إلى جهة منفذة للقواعد، فلا توجد حكومة عالمية تضمن تصرف الدول وفقاً للقواعد التي ربما تكون لها مصلحة في استنانها، لكن مصلحتها في اتباعها ضئيلة. هذا من شأنه أن يجعل فرض التعاون أمراً أكثر صعوبة، ولكن ليس بشكل كامل. تشير نظيرة الألعاب، والتجارب الواقعية، والتجارب المختبرية إلى أن التبادلية تستحث التعاون. ولا يتطلب الأمر بالضرورة الاستعانة بطرف خارجي ثالث لفرض السلوك التعاوني في التفاعلات المتكررة.

أخيراً، من الصحيح أيضاً أن عوامل مثل عدم اليقين وخطر سوء فهم نوايا الدول الأخرى تعمل على تعقيد آفاق التعاون الدولي بين القوى العظمى. ومن المرجح أن يُـنـظَـر إلى التدابير الدفاعية البحتة، سواء كانت اقتصادية أو عسكرية، على أنها تهديدات تتراكم من خلال حلقة مفرغة من التصعيد، لكن هذه المشكلة أيضاً يمكن التخفيف منها إلى حد ما. وكما زعمت أنا ووالت، فقد يكون من المفيد الاستعانة بإطار يعمل على تسهيل التواصل ويشجع على التبرير المتبادل للتصرفات التي قد يُساء تفسيرها من قِـبَـل الطرف الآخر.

يعرب ميرشايمر عن تشككه في قدرة التصميم المؤسسي الـخَـلّاق على إحداث فارق ملموس، فيقول: «إن القوة الدافعة وراء التنافس بين القوى العظمى (الولايات المتحدة والصين) تتسم بطابع بنيوي، وهذا يعني أن القضاء على المشكلة من غير الممكن أن يتأتى من خلال صنع السياسات الذكية»، لكن البنية لا تحدد التوازن بالكامل في نظام معقد، حيث يعتمد تعريف المصالح الوطنية، والاستراتيجيات الواجب اتباعها، والمعلومات المتاحة للجهات الفاعلة، على اختياراتنا إلى حد ما.

ربما تستبعد بنية التنافس بين القوى العظمى العالم الذي يسوده الحب والوئام، لكنها لا تستلزم أن يكون العالم في صراع متصل. وهي لا تحول دون تبني أي من البدائل التي لا حصر لها، التي تقع بين طرفي النقيض. البنية ليست قَـدَراً لا فكاك منه، فنحن نملك القدرة على بناء نظام عالمي أفضل (أو أسوأ).

 

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد، ورئيس الرابطة الاقتصادية الدولية، ومؤلف كتاب «حديث صريح حول التجارة: أفكار من أجل اقتصاد عالمي معافى».